ألا لا أري الأحداث مدحا ولا ذما – المتنبي

ألا لا أُري الأحداثَ مَدحاً ولا ذَمّا … فَما بَطشُها جَهلاً ولا كفُّها حِلمَا

إلى مثلِ ما كانَ الفتى مرْجعُ الفتى … يَعُودُ كمَا أُبْدي ويُكرِي كما أرْمَى

لَكِ الله مِنْ مَفْجُوعَةٍ بحَبيبِها … قَتيلَةِ شَوْقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصْمَا

أحِنّ إلى الكأسِ التي شرِبَتْ بها … وأهوى لمَثواها التّرابَ وما ضَمّا

بَكَيْتُ عَلَيها خِيفَةً في حَياتِها … وذاقَ كِلانا ثُكْلَ صاحِبِهِ قِدْمَا

ولوْ قَتَلَ الهَجْرُ المُحبّينَ كُلَّهُمْ … مضَى بَلَدٌ باقٍ أجَدّتْ لَهُ صَرْمَا

عرَفْتُ اللّيالي قَبلَ ما صَنَعَتْ بنا … فلَمَا دَهَتْني لم تَزِدْني بها عِلْمَا

مَنافِعُها ما ضَرّ في نَفْعِ غَيرِها … تغذّى وتَرْوَى أن تجوعَ وأن تَظْمَا

أتاها كِتابي بَعدَ يأسٍ وتَرْحَةٍ … فَماتَتْ سُرُوراً بي فَمُتُّ بها غَمّا

حَرامٌ على قَلبي السّرُورُ فإنّني … أعُدّ الذي ماتَتْ بهِ بَعْدَها سُمّا

تَعَجَّبُ مِنْ لَفْظي وخَطّي كأنّما … ترَى بحُرُوفِ السّطرِ أغرِبةً عُصْمَا

وتَلْثِمُهُ حتى أصارَ مِدادُهُ … مَحاجِرَ عَيْنَيْها وأنْيابَها سُحْمَا

رَقَا دَمْعُها الجاري وجَفّتْ جفونها … وفارَقَ حُبّي قَلبَها بَعدمَا أدمَى

ولم يُسْلِها إلاّ المَنَايا وإنّمَا … أشَدُّ منَ السُّقمِ الذي أذهَبَ السُّقْما

طَلَبْتُ لها حَظّاً فَفاتَتْ وفاتَني … وقد رَضِيَتْ بي لو رَضيتُ بها قِسْمَا

فأصْبَحتُ أسْتَسقي الغَمامَ لقَبرِها … وقد كنْتُ أستَسقي الوَغى والقنا الصُّمّا

وكنتُ قُبَيلَ الموْتِ أستَعظِمُ النّوَى … فقد صارَتِ الصّغَرى التي كانتِ العظمى

هَبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ منَ العِدَى … فكيفَ بأخذِ الثّأرِ فيكِ من الحُمّى

وما انسَدّتِ الدّنْيا عليّ لضِيقِهَا … ولكنَّ طَرْفاً لا أراكِ بهِ أعمَى

فَوَا أسَفا ألاّ أُكِبَّ مُقَبِّلاً … لرَأسِكِ والصّدْرِ اللّذَيْ مُلِئا حزْمَا

وألاّ أُلاقي روحَكِ الطّيّبَ الذي … كأنّ ذكيّ المِسكِ كانَ له جسمَا

ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ … لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا

لَئِنْ لَذّ يَوْمُ الشّامِتِينَ بيَوْمِهَا … لَقَدْ وَلَدَتْ مني لأنْفِهِمِ رَغْمَا

تَغَرّبَ لا مُسْتَعْظِماً غَيرَ نَفْسِهِ … ولا قابِلاً إلاّ لخالِقِهِ حُكْمَا

ولا سالِكاً إلاّ فُؤادَ عَجاجَةٍ … ولا واجِداً إلاّ لمَكْرُمَةٍ طَعْمَا

يَقُولونَ لي ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ … وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمى

كأنّ بَنيهِمْ عالِمُونَ بِأنَّنِي … جَلُوبٌ إلَيهِمْ منْ مَعادِنه اليُتْمَا

وما الجَمْعُ بَينَ الماءِ والنّارِ في يدي … بأصعَبَ من أنْ أجمَعَ الجَدّ والفَهمَا

ولكِنّني مُسْتَنْصِرٌ بذُبَابِهِ … ومُرْتكِبٌ في كلّ حالٍ به الغَشمَا

وجاعِلُهُ يَوْمَ اللّقاءِ تَحِيّتي … وإلاّ فلَسْتُ السيّدَ البَطَلَ القَرْمَا

إذا فَلّ عَزْمي عن مدًى خوْفُ بُعده … فأبْعَدُ شيءٍ ممكنٌ لم يَجِدْ عزْمَا

وإنّي لَمِنْ قَوْمٍ كأنّ نُفُوسَهُمْ … بها أنَفٌ أن تسكنَ اللّحمَ والعَظمَا

كذا أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبي … ويا نَفسِ زيدي في كرائهِها قُدْمَا

فلا عَبَرَتْ بي ساعَةٌ لا تُعِزّني … ولا صَحِبَتْني مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا