أقداح و أحلام – بدر شاكر السياب
أنا لا أزال و في يدي قدحي … ياليل أين تفرق الشرب
ما زلت أشربها و أشربها … حتى ترنح أفقك الرحب
الشرق عُفر بالضباب فما … يبدو فأين سناك يا غرب؟
ما للنجوم غرقن ، من سأم … في ضوئهن و كادت الشهب ؟
أنا لا أزال و في يدي قدحي … ياليل أين تفرق الشرب ؟
الحان بالشهوات مصطخب … حتى يكاد بهن ينهار
و كأن مصاحبيه من ضرج … كفان مدهما لي العار
كفان ؟بل ثغران قد صبغا … بدم تدفق منه تيار
كأسان ملؤهما طلى عصرت … من مهجتين رماهما الحب
آو مخلبان عليهما مزق … حمراء تزعم أنها قلب
يا ليل ، أين تطوف بي قدمي ؟ … في أي منعرج من الظلم
تلك السبيل أكاد أعرفها … بالأمس خاصر طيفها حلمي
هي غمد خنجرك الرهيب ، و قد … جردته و مسحت عنه دمي
تلك السبيل على جوانبها … تتمزق الخطوات أو تكبو
تتثاءب الأجساد جائعة … فيها كما يتثاءب الذئب
حسناء يلهب عريها ظمأي … فأكاد أشرب ذلك العريا
و أكاد أحطمه ، فتحطمني … عينان جائعتان كالدنيا
غرست يد الحمى على فمها … زهرا طوى شهواتها طيّا
إن فتحته بحرها شفة … سكرى يعربد فوقها ندب
رقص اللهيب على كمائمه … و مشى الطلاء يهزه الوثب
عين يرنح هدبها نفسي … وفم يقطع همسه الداء
ويد على كتفي مجلجلة … رباه .. ويك أتلك حواء
لا كنت آدمها و لا لفحت … فردوسي الخمري صحراء
صوت النعاس يرن في أفقي … فتذوب ناعسة به السحب
إن الفراش يقيك ياقدمي … سوء العثار إذا دجى درب
أنا حائر متوجف قلق … كالظل بين جوانب البحر
المد قربني إلى شبحي … والآن تبعدني يد الجزر
وأنا الضياء تخيفني دجن … وأخاف أن سأضيع في الفجر
يانوم كل عوالمي حجب … ولو التقيتك ذابت الحجب
و انثال ، من سهري على … سهري ينبوعك المتثائب الرطب
أثملت بين جوانحي أملا … ماكنت أعلم أنه أمل
مثل الفراشة عاد يحبسها … دوح بذائب طله خضل
لولا خفوق جناحها غفلت … بيض الأزاهر عنه والمقل
أنا من ظلالك بين أودية … عذراء ، كل سهادها عشب
هام الضباب على جوانبها … طل الوشاح كنجمة تخبو
أنا كوكب ظمآن ترعشه … نطف مؤرجة من السحر
أنا غير جسمي عالمي حلم … بكر الظلال ، ولمحه عمري
قلبي تغرّب عن أحبته … وانسل من نغماته وتري
فإذا لثمت فغير خادعة … باتت لكل مخادع تصبو
وإذا شدوت أرن في أفق … عبر السماء غنائي العذب
هو يافؤادي طيفها مسحت … عنه التراب أنامل الغسق
هو غير تلك أما ترى ألقا … هو من دمائك أنت من حرقي
هو غيرها .. غدرت ، وبادلني … حبي ، و ضمد بالسنا أفقي
ومن المهازل أن يرى أمدا … بين الخيانة و الهوى _ هدب ؟
أين العوالم كيف غيّرها … نوم يرف وخاطر صب
خفقت ذوائبها على شفتي … و سنى فأسكر عطرها نفسي
نهر من النفحات أرشفني … ريحا تريب مجامر الغلس
فكأن نايا ضمخته يدا آذار … ناغم ليلة العرس
فغفا و ما زالت ملاحنه … ملء الفضاء يعيدها الحب
أو أن سوسنة يراقصها … رجع الغناء بشعرها تربو
ياقبلة أخذت على عجل … أفدي بعمري ذلك العجلا
الشعر ستّر بالظلال فمي … فهوى على الوجنات واشتعلا
فعلى جوانبهن منه سنا … يدعوه من جهل الهوى : خجلا
فضح احمرارك ياخدود فما … زال يفضحني بما يحبو
هو طفلك اللاهي ينازعه … أبدا إلى زهراتك اللعب
يا جسم ذاك الطيف ، ايا شبحا … من ذكرياتي يا هوى خدعا
لعناتي الحنقات ما برحت تعتاد … خدرك و الظلام معا
خفقت بأجنحة الغراب على … عينيك تنشر حولك الفزعا
الصبح ، صبحك ، ضحك شامتة … دام و لليلك مضجع ينبو
و إذا هلكت غدا ، فلا تجدي … قبرا و مزق صدرك الذئب ؟
و البوم يملأ عشه نتفا … من شعرك المتعفر الضجر
و يعود ثغرك للذباب لقى … و يداك مثقلتان بالحجر
لا تدفعان أذاه عن شفة … بالأمس أخرس لغوها و تري
و ليسق من دمك الخبث غدا … دوح تعشش فوقه الغرب
تأوي الصلال إلى جوانبه … غرثى و يعوي تحته الكلب
ويعود من خشباته نزق … جان ، بمقبض خنجر دام
ويعد منه سرير زانية … تهوى فتثقله بآثام
وتظل أعواد المشانق من … أعواده ، كسيت بأجسام
حتى إذا عصف الذبول به … وهوى عليه المعول العضب
كان الوقود لقدر ساحرة … بين المقابر شأنها القشب