أفاضل الناس أغراض لدى الزمن – المتنبي

أفاضِلُ النّاسِ أغراضٌ لَدى الزّمَنِ … يَخلُو مِنَ الهَمّ أخلاهم من الفِطَنِ

وإنّما نَحْنُ في جيلٍ سَواسِيَةٍ … شَرٍّ على الحُرّ من سُقْمٍ على بدَنِ

حَوْلي بكُلّ مكانٍ مِنهُمُ خِلَقٌ … تُخطي إذا جِئتَ في استِفهامِها بمَنِ

لا أقْتَري بَلَداً إلاّ على غَرَرٍ … ولا أمُرّ بخَلْقٍ غيرِ مُضْطَغِنِ

ولا أُعاشِرُ من أملاكِهِمْ مَلِكاً … إلاّ أحَقَّ بضَرْبِ الرّأسِ من وَثَنِ

إنّي لأعْذِرُهُمْ مِمّا أُعَنّفُهُمْ … حتى أُعَنّفُ نَفْسِي فيهِمِ وأني

فَقْرُ الجَهُولِ بِلا قَلْبٍ إلى أدَبٍ … فَقْرُ الحِمارِ بلا رَأسٍ إلى رَسَنِ

ومُدْقِعِينَ بسُبْرُوتٍ صَحِبْتُهُمُ … عارِينَ من حُلَلٍ كاسينَ من دَرَنِ

خُرّابِ بادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ … مَكْنُ الضِّبابِ لهمْ زادٌ بلا ثَمَنِ

يَسْتَخْبِرُون فَلا أُعْطيهِمِ خَبَري … وما يَطيشُ لَهُمْ سَهْمٌ منَ الظِّنَنِ

وخَلّةٍ في جَليسٍ ألْتَقيهِ بهَا … كَيما يرَى أنّنا مِثْلانِ في الوَهَنِ

وكِلْمَةٍ في طَريقٍ خِفْتُ أُعْرِبُها … فيُهْتَدَى لي فلَمْ أقدِرْ على اللَّحَنِ

قد هَوّنَ الصّبرُ عِندي كلَّ نازِلَةٍ … ولَيّنَ العَزْمُ حَدَّ المَركَبِ الخشنِ

كم مَخلَصٍ وعُلًى في خوضِ مَهْلَكَةٍ … وقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بالذّمّ في الجُبُنِ

لا يُعْجِبَنّ مَضيماً حُسْنُ بِزّتِهِ … وهَلْ تَرُوقُ دَفيناً جُودَةُ الكفَنِ

لله حَالٌ أُرَجّيها وتُخْلِفُني … وأقْتَضِي كَوْنَها دَهْري ويَمطُلني

مَدَحْتُ قَوْماً وإنْ عِشنا نَظَمتُ لهم … قَصائِداً مِنْ إناثِ الخَيلِ والحُصُنِ

تَحْتَ العَجاجِ قَوافيها مُضَمَّرَةٌ … إذا تُنُوشِدْنَ لم يَدْخُلْنَ في أُذُنِ

فلا أُحارِبُ مَدْفُوعاً إلى جُدُرٍ … ولا أُصالِحُ مَغروراً على دَخَنِ

مُخَيِّمُ الجَمْعِ بالبَيداءِ يَصْهَرُهُ … حَرُّ الهَواجِرِ في صُمٍّ من الفِتَنِ

ألقَى الكِرامُ الأُلى بادوا مكارِمَهُمْ … على الخَصيبيّ عندَ الفَرْضِ والسُّننِ

فَهُنّ في الحَجْرِ منهُ كلّما عرَضَتْ … لَهُ اليَتَامَى بَدا بالمَجْدِ والمِنَنِ

قاضٍ إذا التَبَسَ الأمرانِ عَنّ لَهُ … رأيٌ يُخَلِّصُ بَينَ الماءِ واللّبَنِ

غَضُّ الشّبابِ بَعيدٌ فَجْرُ لَيْلَتِهِ … مُجانِبُ العَينِ للفَحْشاءِ والوَسَنِ

شَرابُهُ النَّشْحُ لا للرّيّ يَطْلُبُهُ … وطُعْمُهُ لِقَوامِ الجِسْمِ لا السِّمَنِ

ألقائِلُ الصّدْقَ فيهِ ما يُضِرّ بهِ … والواحِدُ الحالَتَينِ السّرِّ والعَلَنِ

ألفاصِلُ الحُكْمَ عَيَّ الأوَّلونَ بهِ … والمُظْهِرُ الحَقَّ للسّاهي على الذَّهِنِ

أفْعالُهُ نَسَبٌ لَوْ لم يَقُلْ مَعَها … جَدّي الخَصيبُ عرَفنا العِرْقَ بالغُصُنِ

العارِضُ الهَتِنُ ابنُ العارِضِ الهتنِ ابـ … ـنِ العارِضِ الهَتنِ ابنِ العارِضِ الهتنِ

قد صَيّرَتْ أوّلَ الدّنْيا وآخِرَها … آباؤهُ مِنْ مُغارِ العِلْمِ في قَرَنِ

كأنّهُمْ وُلدوا مِنْ قبلِ أنْ وُلِدوا … أو كانَ فَهْمُهُمُ أيّامَ لم يَكُنِ

الخاطِرِينَ على أعْدائِهِمْ أبداً … منَ المَحامِدِ في أوقَى من الجُنَنِ

للنّاظِرِينَ إلى إقْبالِهِ فَرَحٌ … يُزيلُ ما بِجباهِ القَوْمِ مِنْ غَضَنِ

كأنّ مالَ ابنِ عبدِالله مُغْتَرَفٌ … من راحَتَيْهِ بأرْضِ الرّومِ واليَمَنِ

لم نَفْتَقِدْ بكَ من مُزْنٍ سوَى لَثَقٍ … ولا منَ البَحرِ غيرَ الرّيحِ والسُّفُنِ

ولا مِنَ اللّيثِ إلاّ قُبحَ مَنْظَرِهِ … ومِنْ سِواهُ سوَى ما لَيسَ بالحَسَنِ

مُنذُ احْتَبَيْتَ بإنْطاكِيّةَ اعتَدَلَتْ … حتى كأنّ ذَوي الأوْتارِ في هُدَنِ

ومُذْ مَرَرْتَ على أطْوَادِها قُرِعَتْ … منَ السّجودِ فلا نَبْتٌ على القُنَنِ

أخلَتْ مَواهبُكَ الأسواقَ من صَنَعٍ … أغنى نَداكَ عنِ الأعمالِ والمِهَنِ

ذا جُودُ مَن لَيسَ مِنْ دَهرٍ على ثقةٍ … وزُهْدُ مَنْ ليسَ من دُنياهُ في وَطنِ

وهَذِهِ هِمّةٌ لم يُؤتَهَا بَشَرٌ … وذا اقْتِدارُ لِسانٍ لَيسَ في المُنَنِ

فمُرْ وأومىء تُطَعْ قُدّستَ من جبلٍ … تَبارَكَ الله مُجْرِي الرّوحِ في حَضَنِ