أطاعن خيلا من فوارسها الدهر – المتنبي

أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ … وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ

وأشْجَعُ مني كلَّ يوْمٍ سَلامَتي … وما ثَبَتَتْ إلاّ وفي نَفْسِها أمْرُ

تَمَرّسْتُ بالآفاتِ حتى ترَكْتُهَا … تَقولُ أماتَ المَوْتُ أم ذُعِرَ الذُّعْرُ

وأقْدَمْتُ إقْدامَ الأتيّ كأنّ لي … سوَى مُهجَتي أو كان لي عندها وِتْرُ

ذَرِ النّفْسَ تأخذْ وُسعَها قبلَ بَينِها … فمُفْتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمْرُ

ولا تَحْسَبَنّ المَجْدَ زِقّاً وقَيْنَةً … فما المَجدُ إلاّ السّيفُ والفتكةُ البِكرُ

وتَضريبُ أعناقِ المُلوكِ وأن تُرَى … لكَ الهَبَواتُ السّودُ والعسكرُ المَجْرُ

وترْكُكَ في الدّنْيا دَوِيّاً كأنّما … تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشرُ

إذا الفضْلُ لم يَرْفَعكَ عن شكرِ ناقصٍ … على هِبَةٍ فالفَضْلُ فيمَن له الشّكْرُ

ومَنْ يُنفِقِ السّاعاتِ في جمعِ مالِهِ … مَخافَةَ فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفَقْرُ

عَليّ لأهْلِ الجَوْرِ كُلُّ طِمِرّةٍ … عَلَيْها غُلامٌ مِلْءُ حَيزُومِهِ غِمرُ

يُديرُ بأطْرافِ الرّماحِ عَلَيْهِمُ … كُؤوسَ المَنَايا حيثُ لا تُشتهَى الخمرُ

وكم من جِبالٍ جُبتُ تَشهَدُ أنّني الـ … ـجِبالُ وبَحْرٍ شاهِدٍ أنّني البَحْرُ

وخَرْقٍ مكانُ العِيسِ منهُ مكانُنَا … من العِيسِ فيهِ واسطُ الكورِ والظّهرُ

يَخِدْنَ بنَا في جَوْزِهِ وكأنّنَا … على كُرَةٍ أوْ أرْضُهُ مَعنا سَفْرُ

ويَوْمٍ وَصَلْناهُ بلَيْلٍ كأنّمَا … على أُفْقِهِ من بَرْقِهِ حُلَلٌ حُمْرُ

ولَيْلٍ وصَلْناهُ بيَوْمٍ كأنّمَا … على مَتنِهِ من دَجنِهِ حُلَلٌ خُضرُ

وغَيثٍ ظَنَنّا تَحْتَهُ أنّ عامِراً … عَلا لم يَمُتْ أو في السّحابِ لهُ قَبرُ

أوِ ابنَ ابنِهِ الباقي عَليَّ بنَ أحْمَدٍ … يَجُودُ بهِ لوْ لم أجُزْ ويدي صِفْرُ

وإنّ سَحاباً جَوْدُهُ مِثْلُ جُودِهِ … سَحابٌ على كلّ السّحابِ له فَخرُ

فَتًى لا يضُمّ القلبُ هِمّاتِ قَلبِهِ … ولَوْ ضَمّها قَلْبٌ لمَا ضَمّهُ صَدرُ

ولا يَنْفَعُ الإمكانُ لَوْلا سَخاؤهُ … وهل نافعٌ لوْلا الأكفُّ القنا السُّمْرُ

قِرانٌ تَلاقَى الصَّلْتُ فيهِ وعامِرٌ … كمَا يَتَلاقَى الهِنْدُوَانيُّ والنّصرُ

فَجاءَ بهِ صَلْتَ الجَبينِ مُعَظَّماً … ترَى النّاسَ قُلاًّ حَوْلَهُ وهُمُ كُثْرُ

مُفَدًّى بآباءِ الرّجالِ سَمَيْذَعاً … هُوَ الكرَمُ المَدُّ الذي ما لهُ جَزْرُ

وما زِلْتُ حتى قادَني الشّوْقُ نحوَهُ … يُسايرُني في كُلّ رَكْبٍ لهُ ذِكْرُ

وأستَكْبِرُ الأخبارَ قَبلَ لِقائِهِ … فلَمّا التَقَيْنَا صَغّرَ الخَبَرَ الخُبرُ

إليكَ طَعَنّا في مَدَى كلّ صَفْصَفٍ … بكُلّ وَآةٍ، كلُّ ما لَقِيَتْ نَحْرُ

إذا وَرِمَتْ من لَسعَةٍ مَرِحَتْ لهَا … كأنّ نَوالاً صَرّ في جِلدِها النِّبرُ

فجئناكَ دونَ الشّمسِ والبدرِ في النّوَى … ودونَكَ في أحوالِكَ الشّمسُ والبدرُ

كأنّكَ بَرْدُ الماءِ لا عَيشَ دونَهُ … ولوْ كنتَ بَرْدَ الماءِ لم يكُنِ العِشرُ

دَعاني إلَيكَ العِلمُ والحِلمُ والحِجَى … وهذا الكلامُ النّظمُ والنّائلُ النّثرُ

وما قُلتُ من شِعْرٍ تكادُ بُيُوتُهُ … إذا كُتِبَتْ يَبْيَضّ من نورِها الحبرُ

كأنّ المَعاني في فَصاحَةِ لَفْظِهَا … نُجُومُ الثّرَيّا أو خلائقُكَ الزُّهرُ

وجَنّبَني قُرْبَ السّلاطِينِ مَقْتُهَا … وما يَقْتضِيني مِن جَماجِمِها النَّسرُ

وإنّي رأيتُ الضُّرّ أحسَنَ مَنظراً … وأهْوَنَ مِنْ مَرْأى صَغيرٍ بهِ كِبْرُ

لِساني وعَيْني والفُؤادُ وهِمّتي … أوُدُّ اللّواتي ذا اسمُها منكَ والشَّطرُ

وما أنا وَحدي قلتُ ذا الشّعرَ كُلّهُ … ولكنْ لشعري فيكَ من نَفسه شعرُ

وما ذا الذي فيهِ منَ الحُسنِ رَوْنَقاً … ولكنْ بَدا في وجهِهِ نحوَكَ البِشْرُ

وإنّي ولوْ نِلْتَ السّماءَ لَعالِمٌ … بأنّكَ ما نِلتَ الذي يوجبُ القَدْرُ

أزالَتْ بكَ الأيّامُ عَتْبي كأنّمَا … بَنُوها لهَا ذَنْبٌ وأنتَ لهَا عُذْرُ