مطر أسود مطر أحمر – أديب كمال الدين

(1)

بعد أن خرجنا من الحرب

نرتدي معطفَ الرعبِ والجنون

اتجهنا إلى بغداد

يتقدّمنا صاحبُ الجند

ممتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً

ونحن من خلفه نجرّ أقدامنا جرّاً

حفاةً، شبه عراة

قال، حين ظهرتْ مآذنُ المدينة،

“سأختارَ لكم موتاً جديداً”.

فضحكنا

وتساءلَ الشيوخُ منّا

عن الموتِ الجديدِ وَجلين

أما نحن، خيرة الجند،

فتصوّرنا الأمرَ مزحةً عابرة.

(2)

لم تمرّ سوى شهور

حتّى قرر صاحبُ الجند

أن يشنّ حربَ النار

على جيرانه النائمين في العسل

فبدأنا بالحرقِ، حرق كلّ شيء:

المواشي والأغنام والمزارع،

الأسواق ومخازن الغلال

ثم حرقنا بيوتَ الشرطة والتجّار

والمخابزَ والمدارسَ والمطاعم.

ثم أمُرِنا أن نحرقَ المساجد.

ارتبكنا قليلاً

كيف لنا أن نحرقَ المساجد؟

غير أنّ صاحبَ الجند

مثّلَ أمامنا بجثةِ جنديّ رفضَ الأمر

فما كان منّا

إلاّ أن دخلنا بيوتَ الله

نحرقها ونطلق صيحاتِ الرعب

الرعب من الله

الرعب من أنفسنا

والرعب من الرعب

(3)

مرّتْ سنين طويلة

حتّى غطّتْ بغداد

غيمة لا أوّل لها ولا آخر

وبدأتْ تمطر

كانت الغيمةُ سوداءَ كجهنم

فنزل المطرُ أسودَ كالقير

ضحكَ الأطفالُ أوّل الأمر للمطر

لكنهم بكوا

حين أصبحتْ وجوههم كالقير

واستبشر الزرّاع خيراً

لكنهم وجموا إذ رأوا أشجارهم

تموتُ ببطء

ثم جاء الدورُ للسحرة الذين وقفوا

في أزقة المدينة

ينتظرون المطر ينزل في أوانيّهم.

كانوا يرقصون

فهذا المطر رديف للسحرالأسود

قالوا انهم سيسحرون به كلّ شيء

حتّى صاحب الجند نفسه

(4)

استمر سقوطُ المطرِ سنوات وسنوات

كبرُالأطفالُ وهرموا وماتوا

اغتمّ الفلاحون

بل ماتوا من الغمّ.

وحدهم السحرة كانوا يرقصون

فالمطرالأسود

كان عوناً عجيباً للسحر الأسود

هكذا سحروا المدينةَ كلّها

سحروا الجندَ فصاروا لصوصاً وقَتَلة

وسحروا الشيوخَ فصاروا كذّابين وتافهين

وسحروا صاحبَ الجند

فاختفى في حفرةٍ داخل الأرض

تاركاً لهم قصوره وذهبه وحصانه الأبيض

ثم سحروا المطرَ الأسودَ نفسه

فصار مطراً أحمر:

مطراً من الدمِ القاني

صبغَ وجوهَ السحرةِ ولحاهم وأوانيهم

ثم صبغَ طلاسمهم وحروفهم وبخورهم

ثم صبغَ ذاكرتهم وصيحاتهم وأصابعهم

حتّى ضاعوا إلى الأبد

وضاعتْ معهم بغداد إلى الأبد.