أَدَارَ على النّدمان كأَسَ عقارِهِ – عبدالغفار الأخرس

أَدَارَ على النّدمان كأَسَ عقارِهِ … وحيى بوردِ الخدِّ من جلِّناره

وفي طرفه للسكر ما في يمينه … فكلتاهما من خمرهِ واختماره

وماس فمال البان إذ ذاك غيرة ً … عليه وأزرى فيه عند ازوراره

على أَنَّه من روضة الحسن جَنَّة ٌ … ولكَّنه ما حفَّها بالمكاره

وقد نسجت أيدي الربيع ملابساً … مفوَّفة ً من ورده وبهاره

وسال لجين الماء فوق زمرد … يحلّيه من نّواره بنضاره

وأصبح مخضراً من النَّبت شارب … يروق ويزهو بهجة بکصفراره

وقد رَقَصَتْ تلك الغصون تطرباً … لبُلْبُلِه الشادي وصوت هزاره

تألَّفَ ذاك الشكل بين اختلافه … وأبْدَعَ في إحسانه وابتكاره

فهذا يَسُرُّ الناظرين کصفرارُه … وهذا زها مخضره باحمراره

وكم راح يغني عن الزهر أغيدٌ … بنرجس عينيه وآس عذاره

عَصَيْتُ عذولي في هواه ولائمي … وما زلت في طوع الهوى واختياره

أطال بطول القدّ في الحبّ حسرتي … وحيرَّني في خصره واختصاره

ولله مخضر العذار عشقته … وحمر المنايا السود عند اخضراره

أُجادل عذَّالي على السخط والرضا … وإنّي لراض بالهوى غير كاره

يقول الهوى العذريّ في مثل حبِّه … إذا لم تطقْ هجر الحبيب فداره

وليلٍ كيومِ النَّقع أسودَ فاحمٍ … تخوص بكاسات الظّلا في غماره

أَغَرْنا على اللّذات ما ذكرت لنا … وأَبْعَدَ كَلٌّ عندها في مغاره

وقد زار من أهوى على غير موعدٍ … فيا قربَ منآه وبعد مزاره

فآنسني في وَصْله بعد هجره … وقد آلفَ المشتاق بعد نفاره

وما زال حتى صوَّب النجم وانطوى … رداءُ ظلام الليل بعد انتشاره

ولاحت أسارير الصباح وبشَّرتْ … بأنَّ الدجى قد حان حين بواره

ولم يبق من أبناء حام بقية … فما شقً عن حامٍ ولا عن غباره

يدير علينا كأسَ راح رويّة … تجرِّدُ من يروى بها من وقاره

تخبرنا عن نار كسرى لعهده … وقد برزتْ في طوقه وسواره

فما نزلت والهمّ يوماً بمنزلٍ … وما أَقْبَلَتْ إلاّ لأجل فراره

وقلنا له هاتِ الصَّبوح فكلُّنا … يُريدُ شفاءً بالطلا من خماره

ونحن بروض رقَّ فيه نسيمه … وجرَّ على الأنفاس فضل إزاره

وأهدت إلى الأرواح أرواحها الصبا … أريج خزاماه وطيب عراره

وأنعمُ عيشٍ ما حظيتُ برغده … وكنتُ لعبد الله ضيفاً بداره

أمنتُ طروق الهم من كل وجهة … إذا كنتُ يوماً نازلاً في جواره

أقرُّ به عيناً وأشرح خاطراً … وأشرك شكر الروض وبل قطاره

فمن فضله أنّي أبوء بفضله … وأفخر ما بين الورى بافتخاره

ولا خير فيمن لا يؤمَّل نفعه … ولا يتّقى من بأسه وضراره

ومنذُ رأيتُ اليُمن طوعَ يَمينه … وَجَدْتُ يَساري حاصلاً في يساره

وقيَّدني منه رقيقُ جميله … فَلَسْتَ تراني مطلقاً من إساره

أبرَّتْ به في الأنجبين ذخيرة … وحسبُك ما كان الغنى بادخاره

أنزّه طرفي في محاسن وجهه … وإنْ غاب عَنِّي لم أزل بانتظاره

وإنّي لأهواه على القرب والنوى … وأطربُ في أخباره وادِّكاره

جَنَيْتُ به غرس المودَّة يانعاً … وكل جميل يجتنى من ثماره

سريع إلى الفعل الجميل مبادر … إلى الخير في إقباله وبداره

رعى الله من يرعى من الخلّ عهده … وأدّى له ما ينبغي لذماره

إذا دار في زهر العلى فلك العلى … فآل زهير الصّيد قطب مداره

صناديدُ يشتارون من ضربِ العلى … وشوك القنا الخطيّ دون اشتياره

لقد عرف المعروف من قبلها بهم … وشيد بفضل الله عالي مناره

وهل تجحد الحساد آية مجدهم … وَقَد طلَعت في الكون شمس نهاره

بهم كلّ مقدام على الرّوع فاتك … بسطوته في جنده وکقتداره

ويفترّ في وجه المطالب ضاحكاً … ولا الأقحوان الغض عند افتراره

إذا استنصر الصمصام أيّد حزبه … وقام اليماني قائماً بانتصاره

إذا قيل رمح حدّ سنانه … وإنْ قيل عضبٌ كان حدَّ غراره

وإنْ عدَّ كبّار الأنام فإنّما … أصاغرهم معدودٌ من كباره

همُ خيرُ من لا يبرح الخيرُ فيهم … وما كلُّ من ألْفَيْتَه من خياره

تضوّعَ مسكيّ الشذا من ردائه … بعنصره الزاكي وطيب نجاره

فهم أبحرُ الجدوى تفيض ولم تغضْ … فكم وارد عذب الندى من بحاره

يهون عليه المال إنْ عزّ أو غلا … وينظر أسناه بعينت احتقاره

صفا مثل صفو الراح لذَّتْ لشارب … ودارت كما شاء الهوى في دياره

فلا زالت الأفراح حشوَ ردائه … ولا برحتْ عن برده وشعاره