يا ناعيا فاجأ الربوعا – جبران خليل جبران

يا ناعيا فاجأ الربوعا … أجزعت من لم يكن جزوعا

كفى فؤادي ما في فؤادي … لا تصف الحادث الفظيعا

كان من الصبر لي دروع … لم يدع الدهر لي دروعا

يذهب ميت وراء ميت … وأنثني أذرف الدموعا

هذا حبيب قضى ويتلو … آخر في إثره سريعا

وخير أهلي وخير صحبي … مضوا تباعا ولا رجوعا

وما بقائي إلا اغتراب … إذا ثوى رفقتي جميعا

عاد فأذكى الأسى عليهم … آخر ناء هوى صريعا

أودى وفي صدره صدوع … ذاك الذي يرؤب الصدوعا

وأحر قلبا عليه يدمى … مقلبا جنبه الواجيعا

بعد النجيع المراق عنا … هل سال جرح أنقى نجيعا

بين ضلوعي نعش حبيب … أذكى الأسى حوله الضلوعا

يا علم البيعة المعلى … وحصنها الراسخ المنيعا

وخير راع في خير حقل … بورك فيه رعي القطيعا

حقل سقاه الفدى دماء … بها سيبقى خصبا مريعا

كنت شبيه المسيح تجلو … للناس تمثاله البديعا

مصورا بالحلى حلاه … وحاملا قلبه الوديعا

بآية للجلل تلقى … في الأنفس الحب والخشوعا

حاكيت ناسوته كمالا … وكنت تلميذه المطيعا

تبذل في الباقيات بذلا … ألطف مغزى من أن يذيعا

تلوذ بالحق لا تراعي … فيه وصولا ولا قطوعا

تناصر الحر في المساعي … وتكبح الفتنة الشموعا

تطهر البيت لا شراء … تحل فيه ولا مبيعا

ولم تكن بالفدى ضنينا … ولم تكن للندى منوعا

وما توليت من صنيع … للخير أكملته صنيعا

أوتيت ذهنا خصبا وعلما … إلى مداه الأقصى وسيعا

تكتب فالوحي مستهل … ينشيء في طرسك الربيعا

والفصح المنتقاة تملي … بيانك الناصع الرفيعا

تخطب فالروح تملي … من أوجه يملك الجموعا

إشارة كالشعاع هديا … ومنطق يطرب السميعا

شأوت قسا وما عرفنا … له بميدانه قريعا

لو عاد ممن خلا أناس … لعاد متبوعهم تبيعا

خلال مجد على زاكي … أصولها أنبتت فروعا

لم يلف إلاك عبقري … رد به شملها جميعا

ضم المزايا إلى المزايا … وكان إلا بها قنوعا

أمعن في كل ما توخى … إلى نهايات ما استطيعا

بعزمة لا نهي ونفس … إلى العلى لا تني نزوعا

ورقة في أبي ضيم … لا يقرب الذل والخنوعا

يقتحم الهول لا يبالي … والهول قد شيب الرضيعا

ألعبقري الكبير أمسى … في برزخ ضيق ضجيعا

أجاب مولاه إذ دعاه … لا مستطارا ولا مروعا

تبكي فلسطين بانتحاب … مقدامها الصادق الشجيعا

والضاد تأسى لفقد ذخر … برغمها أنه أضيعا

يا من شجاهم منهم هجوع … نفر من شعبه الهجوعا

ألم تروا كوكبا جديدا … يبهر لألاؤه سطوعا

بحسبكم أنه يداني … في ملكوت العلى يسوعا

وأن حبرا حمى حماكم … أضحى لكم عنده شفيعا