يا من شكت ألمي معي – جبران خليل جبران

يا من شكت ألمي معي … طيبته في مسمعي

شكواك ألطف بلسم … لجراحة المتوجع

ما أعلق الشدو الرخيم … بكل قلب مولع

غني أهازيج النوى … وعلى نواحي أوقعي

بنت الكنانة ما رمى … بك بين هذي الأربع

فيم اغتربت وكنت في … ذاك الأمان الأمنع

أحملت محمل سلعة … جلبا بغير تطوع

ففررت من قفص الكفيل … إلى الفضاء الأوسع

وبودك العود القريب … لسربك المستمتع

في مصر مصرخة اللهيف … وملجإ المتفزع

مصر السماء الصحو مصر … الدفء مصر المشبع

مصر التي ما ريع ساكنها … بريح زعزع

حيث المراعي والندى … للمرتوي والمرتعي

حيث السواقي الحانيا … على الطيور الرضع

حيث الحرارة ما توال … ربيبها يترعرع

أم أنت من تلك الجوالي … في الفصول الأربع

لا تعرفين من الزمان … سوى المكان الممرع

تثبين من متربع … أبدا إلى متربع

بهداية صحت على … طلب الأحب الأنفع

وثقوب فكر في التوجه … واختيار المنجع

وغناء رأي عن دلالة … إبرة أو مهيع

وقناعة من قسمة … لك عند خير موزع

في السرب أني سار لا … تخشين سوء الموقع

السرب ما في السرب من … عجب لذي قلب يعي

تنضم حين جلائه … أشتاته في مجمع

من غير ميعاد تقدم … للرحيل المزمع

فإذا علا أزرى على … سرب السفين المقلع

آلاف آلاف بغير … تلكؤ وتضعضع

وبلا هزيز تقلقل … وبلا أزيز تخلع

وبلا اصطدام في الزحام … محطم ومصدع

إن تلتئم فمرورها … كالعارض المتقشع

أو تفترق فهي الجيوش … بقادة وبتبع

كل يسير ولا يخالف … في الطريق المشرع

كل يجاري رأيه … والرأي غير موزع

كل كربان يدير … زمام فلك طيع

باليمن يا غريدة الوادي … إلى الوادي ارجعي

إني لأسمع في غنائك … رقرقات الأدمع

ويروعني شجن به … كشجى بحلق مودع

تلك البراعة ما استتمت … في جمال أبرع

جسم كحق للحياة … معرق ومضلع

يغشاه ثوب دبجت … ألوانه يد مبدع

ألمتن يزدهر ازدهار … الأخضر المتجمع

والصدر فيما دونه … يزهي بأحمر مشبع

والجيد زين من النضار … بحلية لم تصنع

دع كل نقش في الخلال … موشم ومبقع

ودع القوادم تستقل … بريشها المتنوع

آيات خلق من يجل … نظرا بها يتخشع

أعظم بها في ذلك الجسم … الصغير الأضرع

لولا الحرك لخيل من … ثمر هنالك مونع

حلو الشمائل إن يجار … الطبع أو يتطبع

يرنو بفائضتي سنى … كالجوهر المتطلع

يسهو بغاشيتني تنسدلان … سدل البرقع

متطاول الخدين في وجه … حديد المقطع

منقاره كقلامتين … من الظلام الأسفع

أخت الشوادي الخضر حانت … لفتة المتنوع

بك نزعتي نحو الحمى … وعدك قيدي فانزعي

ألقي الوداع تأهبا … واستوفزي واستجمعي

لله وثبتك البديعة … إذ وثبت لتطلعي

حيث الضحى متساكب … كطلا بكف مشعشع

والريح تحضن آخر النغمات … حضن المرضع

والدوح مياد الرؤوس … مشيع بالأذرع

وتعطف الأفنان شبه … تقصف في أضلع

خضت الضياء على غوارب … موجه المتدفع

تتصاعدين وما الشهاب … المستطار بأسرع

يرمي جناحاك المهاوي … بالشعاع السطع

وتراع رائعة النهار … لوهجك المتفرع

ولشكة الألوان حولك … كالنصاع الشرع

مزقت أستار السنى … عن عالم متقنع

جم الخلايا في حواشي … النور خافي الموضع

أنزلت هولا في قراه … وفي الذرائر أجمع

أنظرت عن كثب إلى … ملإ هناك مروع

هي وقعة في الجو بين … هبائه المتلمع

هبت خلائقه على … ذاك المغير المفزع

في أسد غاب تستطير … وفي ذباب وقع

يجددن حربا كالكماة … وكالرماة الركع

يكررن أو يفررن … بين تفرد وتجمع

يرمين بالرجم الدقاق … وبالنجوم الظلع

تيهي بغارتك السنية … في المجال الظلع

ما شأن كسرى في الفتوح … وما مفاخر تبع

لا مجد يبلغ مجدك الأسنى … بذاك المفرع

لا صفو أروح من … تحير خصمك المتضعضع

لا سلم أبهج من تهايل … ركنه المتزعزع

أمم الأثير جمالها … في أن تراع فروعي

وتتم آية حسنها … بالأمن بعد تفزع

فإذا مضيت ولم تصب … ببلائك المتوقع

بل جزت بالحسنى وساء … تورع المتورع

ثابت إلى فرح كذلك … توبة المتسرع

فسديمها كغبار در … ساطع في مسطع

والجو تملأه نسالات … البروق اللمع

سيري وولي صدرك … المشتاق شطر المربع

حتى إذا ما جئته … وشرعت أعذب مشرع

وشدوت ما شاء السرور … على ارتقاص الأفرع

عوجي ببستان هنالك … في العراء مضيع

صفصافه متناوح … والنور بادي المدمع

لي في ثراه دفينة … كالكنز في المستودع

تخفي الأزاهر قبرها … عن أعين المستطلع

كانت مثالا للمحاسن … في مثال أروع

فتحولت لطفا إلى … طيف أرقوأبدع

طيف يشف به البلى … عن رفعة وتمنع

فإذا السماء قراره … والنجم بعض اليرمع

قولي له إن جئته … يا أنس هذا البلقع

أتحس في هذا الثرى … نبضان قلب موجع

هذا حنين من فؤاد … محبك المتفجع

عدت العوادي جسمه … عن قرب هذا المضجع

فمضى بأحزن ما يكون … أخو الأسى وبأجزع

ونوى الضريح أضره … كنواك يوم المصرع

نعم الشفيعة أنت لي … عند الملائك فاشفعي

من لي بصوت مثل صوتك … مبلغ لتضرعي

ينهى إلى ثاوي الجنان … فيستجيب وقد دعي

إن الذي أبكيه وهو … من النعيم بمرتع

بر على رغم الفراق … بعبده المتخضع

كم زرته في يقظة … وأمل بي في مهجع

يدنو إلي تنزلا … عن عرشه المترفع

وكم التمست لصوته … رجعا فحقق مطمعي

قطع الغيوب وجاءني … بعروضه المتقطع

هذا الوفاء وفاؤه … فادعيه لا يتمنع

بهتاف لوعتي اهتفي … وصدى حنيني رجعي

حتى يجيب فأنصتي … بضميري المتسمع