هل تعرفُ الدار بذي الأَثْأَب – ابن الرومي
هل تعرفُ الدار بذي الأَثْأَب … والمُنحنَى والسفح من كَبْكَبِ
بكى بها الغيثُ على أهلها … بكل عينٍ ثَرَّة ِ المَسكَبِ
وحال من بعدهم قَطْرُهُ … ملْحاً أجاجاً غير مُستعذَبِ
من ذاقَهُ لم يختلج رأيُهُ … في أنه دمعٌ ولم يَرْتَبِ
وظلّ فيه برقُهُ كالحاً … ورعدُهُ يُعوِلُ في مَنْدبِ
وكم سقاها الغيثُ إذ هُمْ بها … من سَبَلٍ كالشهد لم يُقطَبِ
وكم رأينا بَرْقَهُ ضاحكاً … فيها إلى ذي مَضْحكٍ أَشْنَبِ
وكم سمعنا رعدَهُ ناعراً … من طَرَبٍ فيها على مَطْربِ
دارٌ عفاها بعد سُكانها … سافٍ من الشَّمْأل والأَزْيَبِ
وقد نرى الأرواح تُهدي لنا … نشراً من الأَطْيبِ فالأطيبِ
أنفاسُ نُوّار يَمُج الندى … خلال روضٍ سَبِطٍ أَهْلبِ
كأنها أنفاسُ حُلاَّلها … ولُجَّة ُ الظَّلماء لم تَنْضبِ
طوراً وطوراً كلُّ واهي الكُلى … يكاد يغشى الأرض بالهَيْدَبِ
يُعلُّ ذاتَ الخالِ ريقاً لَهُ … كأنه من ريقها الأَعذبِ
رياً وسُقياً أُعقبت منهما … تلك المغاني شرَّ مُستعقَبِ
ملابسٌ ليست لها بهجة ٌ … حِيكتْ من البطحاء والتَّيربِ
وعَبرة ٌ للغيثِ مسفوحة ٌ … إذا سقاها الأرضَ لم تُخْصِبِ
لم تَغْنَ تلك الدارُ من بعدهمْ … بمثلِ ذاك القَصَبِ الخَرْعبِ
بل عُلَّلَتْ عنهم بأشباههمْ … في الحسن من سِرْبٍ ومن رَبْربِ
أقولُ والعبرة ُ قد أقلعتْ … ولاعجُ اللوعة ِ لم يذهبِ
وشرُّ ما كابَدْتُهُ لاعجٌ … متى تُكفكَفُ ناره تُلْهَبِ
يا قمراً وَكَّلَني بينُهُ … برِعْيَة الكوكب فالكوكبِ
ماذا جنى البينُ لنا ساقَهُ … سَمِّيُهُ البينُ إلى المَعْطبِ
قل لغرابِ البين تبّاً لهُ … إذا تعاطى القولَ في مَذهبِ
أو رَفَعَ الصوتَ بشدوٍ لهُ … مثلَ سَقيطِ الدَمَق الأشهبِ
أُسكتْ لحاك اللَّه من قائلٍ … أَجْنفَ عن قَصْد الهدى أنكبِ
لا تَنْطِقنَّ الدهرَّ في مَحْفلٍ … واغضُض على الكَثْكَث والأَثلبِ
أنت غرابٌ خيرُ أحواله … ما لَزم الصمتَ ولم يَنْعَبِ
فاترك نعيباً شُؤمُهُ راجعٌ … عليك يحدوك إلى مَعْطَبِ
يا بينُ أنت البينُ في عزَّة ٍ … بين غراب البين الأخطبِ
ينتقلُ الناسُ وأحوالُهمْ … وأنت في الدنيا من الرُّتَّبِ
إذا جلا عن منزلٍ أهلُهُ … فأنت في أوتاده الرُّسَّبِ
أنتَ أثافيُّهُ وآناؤُهُ … يُشعَبُ أهلوهُ ولم تُشعَبِ
يا بني حُسين بن هشامِ الذي … فاز بقِدح المُنجِب المُنجَبِ
قولا فقد أصبحتما معدِناً … للظرف قوَّالينِ بالأَصوب
جالستُما الشُّمَّ بني هاشم … والسادَة َ الصِّيدَ بني مُصعبِ
هل في غراب البين مُستمتَعٌ … حيّاً ولم يُقتل ولم يُصلبِ
ما فيه من مُستمتَع خِلْتُهُ … إذا امرؤٌ جدَّ ولم يلعبِ
إلاَّ لسيفٍ بعدَهُ مَرْكَبٌ … في رأس جذعٍ شرُّ ما مَركبِ
منظرُهُ في العين مثلُ القذى … أعيا علاجَ الحُوَّل القُلَّبِ
قُبحاً وإن حَدَّثَ ظَلَّ الورى … من هاربٍ أو صابرٍ مُتعب
تُكدِّرُ الأنفاسَ أنفاسُهُ … مثلَ فُساءِ البَشِمِ الأجربِ
أو كدُخانِ النفط في مُطْبَقٍ … من يُمسِ من سُكَّانه يُنْدَبِ
وربما غَنَّى غناءً لهُ … لولاهُ لم نحزنْ ولم نَكْربِ
يقول من يسمعُ مكروهَهُ … حُيّيتَ لا بالسهلِ والمَرْحبِ
ويهمس المولى إلى عبدِهِ … قَلْنِسْهُ بالصفْعِ ولا تَرهبِ
طَوِّقْهُ بالأفعى ثواباً له … وقَرِّط الصَّفْعانَ بالعقربِ
مُستَرِقُ النغمة مَخْنونُها … مستحشِفٌ في خِلقة العَنْكبِ
ذو صلعة ٍ برصاءَ مغسولة ٍ … من صِيغة المُذهَب والمُشرَبِ
لم تجرِ فيها حيوانية ٌ … فهي كمثلِ الحَجَر الصُّلَّبِ
أو قَرعة ِ القَصَّارِ أو بَيْضَة ٍ … لِلهَيْق في داويّة سَبْسبِ
كأنها لم يُكْسَ يافوخُها … جلداً ولم تُلْحَم ولم تُعصبِ
مُنْتنة ٌ تضحى قَلنساتُها … أنتنَ أرواحاً من الجوربِ
تمتنع النفسُ إذا فكّرت … فيها من المأكل والمشربِ
مشحونة ٌ جهلاً بأمثاله … يُشحَنُ رأسُ الجاهل المِشْغَبِ
لو فُلِقَتْ عنْهُ لأبصرتَهُ … مثلَ الظلام الحالك الغيهبِ
له دعاوٍ وله جُرأة ٌ … كجُرأة ِ الليث على الغُيَّبِ
حتى إذا شاهده عالمٌ … ألفيتَهُ أروغَ منْ ثعلبِ
يَنتحل الآدابَ مُسْحَنْفِراً … وأيُّها المسكينُ لم تُسلبِ
حتى إذا المحنة ُ لاحتْ له … مرَّ مع الزئبق في مَسْرَبِ
مُنتقلاً لا زال في نُقلة ٍ … إلى المحلِّ الأبعد الأجدبِ
من نِحلة ٍ زُورٍ إلى نحلة … زُورٍ فما ينفك من مهربِ
وفيه مَعْ ما قد تجاوزْتُهُ … خزيٌ طويلٌ غير مُستوعبِ
شتّى عيوبٍ لم يُعَبْ غيرُهُ … بها من الناس ولم يُثلبِ
تفاحشتْ حتى لقد أُلقيتْ … من صُحُف الحفظ فلم تُكتبِ
يُجزَى بها يوماً وإن أُغفلتْ … قُبحاً فلم تُكتب ولم تُحسبِ
عجبتُ مِنهُ وحديثٍ له … حُدِّثْتهُ عنه ولم أُكذبِ
سُوئل ما الأيرُ وما نفعُهُ … فاسمعْ لما جاء بهِ واعجَبِ
قال طَهورُ الدُّبرِ من داخلٍ … لمن به مسٌّ من المَذْهَبِ
رأيٌ رآه البين ما إنْ له … عنه إلى الآراءِ من مَرْغبِ
وحكمة ٌ للبَيْنِ مقلوبة ٌ … وأيُّ أمرِ البينِ لم يُقْلَبِ
ما يجتبيهِ غيرُ مُستجلِبٍ … للأجر من أبعد مُستجلَبِ
رأى امرأً سَدَّتْ غَثاثاتُهُ … عليهِ بابَ الكسب والمكسبِ
فجاده من فضله جَودة ً … أضحى لها ذا فننٍ أَهدبِ
وخافَ أن يسلمَهُ للردى … ما فيه من جهلٍ ومن نَيْرَبِ
فرفرفتْ رحمتُهُ فوقَهُ … حتى كَفاهُ نكدَ المطلبِ
ولم يزل يَضْمنُ عن ربّهِ … مذ كان رِزقَ الخائب الأَخيبِ
وهّابُ ما ليس بمستأهَل … مِعطاءُ ما ليس بمستوجَبِ
ذاك أميرٌ لم يزل دونه … جَدٌّ إذا غولب لم يُغلَبِ
واقية ُ اللَّهِ على عبدِهِ … مِنه ومِن صمصامة ِ المِقْضَبِ
بلوتُهُ أكذبَ مِن يَلْمَعٍ … أو بارقٍ يلمع في خُلَّبِ
نعوذ بالرحمن من شؤمه … فإنه أمضى من المِثْقبِ
أحالَهُ اللَّهُ على نحرهِ … وحدَّ سيفٍ صارمِ المَضْربِ
يعيبُ مثلي وَيْلَهُ واسمُهُ … في الناس طراً هدفُ العُيَّبِ
يسطو بلا حولٍ ولا قوة ٍ … منهُ ولا ناب ولا مِخْلبِ
تَقَيَّلَ الأخلاقَ أُماً لهُ … نيكتْ ولم تُمهَرْ ولم تُخطبِ
كانت إذا لاحظها فاسقٌ … أدارها اللحظُ بلا لولبِ
لِطيزِها في كلّ أيرٍ زنى … رأيٌ كرأي الصّقر في الأرنبِ
وأنها قد حَمَّلَتْ رأسَهُ … مثلَ قرونِ الأيّل الأَشْعبِ
خَبَّرَ عنها شيخُهُ أنه … صادفها مفتوحة َ المَثْعب
تُجْذَبُ باستنشاقة ٍ رخوة ٍ … وربما انقادت ولم تُجذبِ
يا لكِ من أُمٍ لها فضلُها … ومن أبٍ أكْرِم به من أب
ماذا دعا البينُ إلى حَيَّة ٍ … صمَّاء من يَنْصِبْ لها يَنْصَبِ
قد كان في مرأى وفي مسمعٍ … عنها ولكن من يَخُنْ يُجلَبِ
يظل يسترهُبني موعداً … هَوْنَك ما مثلي بمُسترهَبِ
هَجهجْ بكلبٍ كَلبٍ نابحٍ … مثلك لا بالأَسَد الأَغلبِ
لأعرفنَّ البين مُستعتبي … يوماً وليس البينُ بالمُعْتَبِ
إذا غدا وهو على آلة ٍ … من منطقي ذاتِ قَرا أحدبِ
وغنت الرُّكبانُ في شتمه … شدواً متى يسمعْهُ لا يَطْربِ
دونكها كأساً وأمثالَها … صِرفاً من المكروه لم تُقطبِ