من ذاق طعم شراب القوم يدريه – ابن شهاب

من ذاق طعم شراب القوم يدريه … ولم يروق رحيقاً غير صافيه

يغمى عليه فيدري غب غيبته … ومن دراه غدا بالروح يشريه

ولو تعوض أرواحاً وجاد بها … في نيله فهو بيع رابح فيه

ولو حوى ألف نفس وهو يبذلها … في كل طرفة عين لا تساويه

وقطرة منه تكفي الخلق لو طعموا … لعربدوا عندما تبدو بواديه

يدب فيهم ويسري سر سورته … فيشطحون على الأكوان بالتيه

وذو الصبابة لو يسقى على عدد … الذر الذي سائر الأكوان تحويه

مضاعفاً عدّه بالضرب في جمل … الأنفاس والكون كأس ليس يرويه

يروي ويظمأ لا ينفك شاربه … على الدوام مكبّاً في تعاطيه

ولم يزل لتوالي ما يساوره … يصحو ويسكر والمحبوب يسقيه

في ريّه ظمأ والصحو يسكره … والمحو يثبته واللوم يغريه

والقبض يبسطه والوصل يفصله … والوجد يظهره طوراً ويخفيه

يبدو له السر من آفاق وجهته … فأينما أمّ فالمحبوب هاديه

يزوي حجاب التجلّي عن بصيرته … وليس إلاَّ له منه تَبَدِّيه

له الشهادة غيب والغيوب له … عين الشهود ونأي الغير يدنيه

وكان بالفضل في دعوى القصور له … شهادة والفناء المحض يبقيه

له لدى الجمع فرق يستضيء به … وبالعبودية الخلصا يؤديه

ملازما فيه آداب الخضوع له … كالجمع من فرقه مازال يلقيه

يدنو ويعلو ويرنو وهو مصطلم … يبدي خصوصية اللاهوت من فيهِ

حتى يعود إلى الناسوت متصفاً … في الحالتين بتمييز وتوليه

له الوجودات أضحت طوع قدته … بالله والأدب المرعى يثنيه

يطير بالروح أنى شاء مقتدراً … وما يشاء من الأطوار يأتيه

للقوم سر مع المحبوب ليس له … من رتبة يرتقيها غير أهلية

وليس يدرك للفيض الذي منحوا … حد وليس سوى المحبوب يحصيه

به تصرفهم في الكائنات فما … يقضي امرؤ منهم إلا ويمضيه

ولا يريدون إلا ما يريد وما … يشاء شاؤوا وما شاؤوه يقضيه

إن كنت تعجب من هذا فلا عجب … لأن ذلك فضل الله يؤتيه

وكم نوافل جود في الوجود سرت … لله في الكون سر لا يرى فيه

لا شيء في الكون إلا وهو ذو أثر … فيما يشاهد من تأثير مبديه

إذا تأثر معلول بعلّته … فما المؤثر غير الله قاضيه

ليس التضادد مناعاً لقدرته … وليس يثنيه عن شيء تنافيه

فهو القديم بلا قيد يناط به … من حيث قدرته يأتي تعاليه

وإنما من وجود الحادثات له … في فهمنا مانع الضد الذي فيه

فإنه حيث لم ندرك تصوّره … تمانع في محل ظلّ يحويه

وللفقير وجوه ليس يحصرها … غير الحبيب مفيض الفضل مسديه

له طرائق شتى لا يحيط بها … عدو وكل وجود فهو واديه

لو كنت تدري وجوه العبد كنت ترى … مطوي ما فيه من قدس وتنزيه

وكنت تشهد فيه الحق معتقداً … فيه الكمال كما النقصان تنفيه

والعبد هذا هو الحر الذي حصلت … له بلثم يد الهادي أمانيه

غوث الأنام الرفاعي الذي عقدت … له الخلافة جل الله معطيه

أوصافه ظهرت من وصف مبدعه … كالبدر يبدي ضياء في تلقيه

وجده المصطفى مرآة مشهده … وكله مظهر يبدي تجلّيه

إذا رئي ذكر المولى برؤيته … جهراً وأعلن بالتوحيد نافيه

وشوهدت سبحات النور تغمره … وفاز بالسعد والتقريب رائيه

وعبد عليه سمات العز لائحة … ونور طه عن التعريف يغنيه

لواء غوثية الأكوان في يده … وخلعة العز والتحكيم عاليه

إن كنت تقصد أن تحظى بصحبته … يوم المعاد وترقى في مراقيه

فالزم بنية وخذ عنهم طريقته … واسلك على سنن طابت مساعيه

اخلص ودادك صدقاً في محبته … إن المحب مع المحبوب نرويه

مرغ خدودك في أعتاب مشهده … والزم ثرى بابه واعكف بناديه

واستغرق العمر في آداب صحبته … مع المشائخ والبرهان يحكيه

واسْتَقْرِ ما قد حبا عبد السميع به … وحصل الدر والياقوت من فيه

وابذل قواك وبادر في أوامره … بالامتثال وسر في سير أهليه

واسلك طريقتهم تربح ومل معهم … إلى الوفاق وبالغ في مراقيه

واحذر بجهدك أن تأتي ولو خطأ … أمراً يغاير ما يهوى ويبغيه

وكن لتشملك الألطاف مجتنباً … ما لا يحب وباعد عن مناهيه

وكن محب محبيهم وناصرهم … فبغضهم وجلال الله يؤذيه

ووال بالود من والى خليفته … والزم عداوة من أضحى يعاديه

واعلم يقيناً بأن الله ناصره … على المريد به سوءاً ومعليه

واستفرغ الجهد في تعزيز منصبه … إن لم تكن ناصراً فالله يكفيه

وأنزل الشيخ في أعلا منازله … فإنه قطب هذا الكون واليه

واعرف له الفضل والثم ترب مضجعه … واجعله قبلة تعظيم وتنزيه

ولست تفعل هذا إن ظننت به … أدنى قصور وميل في ترقيه

فحّدك الزم ولا تشهد لحضرته … نقصاً ولا خللاً فيما يعانيه

واترك مرادك واستسلم له أبداً … فإن عين الهدى ما الشيخ يجريه

ولا تزل لا اختيار النفس مطرحاً … وكن كميت مخلى في أياديه

أعدم وجودك لا تشهد له أثراً … يميته الموتة الأولى ويحييه

واجعل مفاتيح بيت السر في يده … ودعه يهدمه طوراً ويبنيه

متى رأيتك شيئاً كنت محتجّاً … وعدت بعد صعود الطور في التيه

وفي حضيض شهود النفس منقطعاً … برؤية الشيء عما أنت ناويه

ولا ترى أبداً عنه غنى فمتى … عرفت فقرك ألفيت الغنى فيه

فأنت ما عشت محتاج إليه ولو … رأيت عنه غنى تخشى تناسيه

إن اعتقادك إن لم تأت غايته … في حضرة الشيخ تحرم من أياديه

وإن تكن غير فإن ما حييت به … فيه فيوشك أن تخفى مباديه

وغاية الأمر فيه أن تراه على … كل الوجوه مصيباً في مساعيه

فإنه المرشد الهادي العباد إلى … نهج الكمال وإن الله هاديه

ومن إمارة هذا أن تؤول ما … يحتاج شرعاً لتأويل وتنبيه

وليس يلزم أن تدري حقيقة ما … عليك يشكل إظهاراً لخافيه

والمرء ان يعتقد شيئاً وليس كما … في نفسه فبحسن الظن يجديه

فظن خيراً بكل المؤمنين فمن … يظنه لم يخب والله يعطيه

وليس ينفع قطب الوقت ذا خلل … لا يشهد السر ذا ريب وتمويه

وما الرفاعي بالهادي لمنتحل … في الاعتقاد ولا من لا يواليه

إلا إذ سبقت للعبد سابقة … وحكم الشيخ قيما شاءه فيه

ينال إذا ذاك ما يرجوه من مدد … يعود من بعد هذا من مواليه

ونظرة منه إن صحّت إليه على … ما فيه تسمو به حقاً وتعليه

شيخ إشارته نحو المريد على … سبيل ود بإذن الله تغنيه

فالناس عبدان مجذوب وسالك ما … به الأوامر جاءت من مربيه

يكلف النفس عبء الاجتهاد كما … دعي إليه بتعليم وتنبيه

والجذب أخذة عبد بغتة بيد … إلى مقام به المحبوب يدنيه

مواهب وفيوضات تزج به … عناية نحو أمر ليس ينويه

هو المراد ومخطوب العناية لا … يمسّه من لغوب في ترقيه

ولا يعاني مشقّات السلوك ولا … يحسّ كلفة تكليف يلاقيه

طوراً يرد عليه الحس تكملة … لحاله ولسر ليس يدريه

إذا تغشاه طور الحس أزعجه … فيقصد الطور ما قد كان ناويه

تراه يعبد لا يلوي على شغل … وفي الدياجر للمولى يناجيه

يمسي وليس له همّ يحرّكه … سوى العبادة يستحلي تفانيه

ترى الحقائق تبدو منه في نسق … كما لموسى بدت من عند باريه

له اطلاع ونور في فراسته … مع الكشوف لأن الله يلقيه

وقد يغيب عن الإحساس مختطفاً … وذاك حين يعيد الجذب داعيه

فيستوي فوق عرش القرب مبتهجاً … وذو العناية حفظ الحق يحميه

وذو السلوك تراه في إرادته … بعد التخلّي مجداً في تحلّيه

له إلى الله سير لا يزال به … مجاهد النفس ذا وعي لباقيه

يمشي على نهج أهل الصدق ملتزماً … ما للشريعة من حكم وتوجيه

مراعياً في طريق القوم عن أدب … شروطهم خائفاً مما يرجيه

كم من مريد قضى ما نال بغيته … وجاء قبل بلوغ القصد ناعيه

لكنه لم يخب مما نواه وإن … حق القضاء عليه في تقاصيه

وكم مريدٍ ونى من بعد عزمته … لعائق عن قويم السير يثنيه

مل السرى ومطايا عزمه وهنت … إذ عزمه ذاك ما صحت مباديه

من ليس يخلص في مبدأ إرادته … فكيف يرجو فلاحاً في تناهيه

ومن له من هوى الأغراض شائبة … يهوي به الحظ في أهوى مهاويه

وما المريد الذي صحت إرادته … واستصحب العزم فيما كان ينويه

وسار في السنن المرضى مجتهداً … إلا مراد له جذب يوافيه

والجذب إن جاء من بعد السلوك له … علو شان وتعظيم وتنويه

وكان من حيث سبق الاجتهاد له … فضل على الجذب مما السعي تاليه

فالجذب هذا الذي التفصيل فيه هو … الذي بمصطلحات القوم نحكيه

سيماه تبد وعلى وجه المريد وذا الجذب … الذي ظهرت فينا بواديه

وفي الحقيقة لولا الجذب ما سلكت … سبل الرشاد ولم يسمع مناديه

ولا تأله مشتاق ولا عمرت … طريق حق ولا رويت مرائيه

لولا العناية والتخصيص قد سبقا … للعبد لم يدعه للفوز داعيه

تلك السوابق لولاها وقد سلفت … في دعوة العبد ما قامت دعاويه

إن المريد مراد والمحب هو … المبدؤ بالحب منذ العرش هاديه

فهو المراد المهنا في الحقيقة … والمحبوب فاستمل هذا من أماليه

إن كان يرضاك عبداً أنت تعبده … ملاحظاً نفي تمثيل وتشبيه

وإن أقامك في حال فقف أدباً … وإن دعاك مع التمكين تأتيه

فيفتح الباب إكراماً على عجل … باب المواهب بشرى من يوافيه

تضحي وتمسي عزيزاً في ضيافته … ويرفع الحجب كشفاً عن تنائيه

وثم تعرف ما قد كنت تجهله … ويصطفيك لأمر لا ترجيه

يوليك ما ليس يدري الفهم غايته … مما عن الحصر قد جلت معانيه

وترتوي من شراب الأنس صافيه … في معقد الصدق والمحبوب ساقيه

من ذاقها لم يخف من بعدها ضرراً … يا سعد من بات مملواً بصافيه

وصل يا رب ما غنت مطوقة … يسلو الخلي بها والصب تشجيه

وما تمايلت الأغصان من طرب … على النبي صلاة منك ترضيه

والآل والصحب والأتباع ما قرئت … من ذاق طعم شراب القوم يدريه