مماتٌ في المواكب، أم حياة ُ – أحمد شوقي

مماتٌ في المواكب، أم حياة ُ … ونعشٌ في المناكب، أم عظاتُ؟

ويومكَ في البرية ِ، أم قيامٌ … وموكبك الأدلة ُ والشيات؟

وخطْبُكَ يا رياضُ أَم الدواهي … على أَنواعها والنَّازلات؟

يجِلُّ الخطْبُ في رجلٍ جليلٍ … وتَكبرُ في الكبير النائبات

وليس الميتُ تبكيه بلادٌ … كمن تَبكي عليه النائحات

وهل تَلْقَى مناياها الرواسي … فتهوي، ثمَّ تضمرها فلاة ؟

وتُكْسَرُ في مراكزها العَوالي … وتدفنُ في التراب المرهفات؟

ويغشى الليثُ في الغابات ظهراً … وكانت لا تَقرُّ بها الحَصاة ؟

ويَرْمِي الدهرُ نادِيَ عينِ شمسٍ … ولا يحمي لواءهم الرماة ؟

أجل، حملتْ على النعش المعالي … ووسدتِ الترابَ المكرمات

وحمِّلتِ المدافعُ ركنَ سلمٍ … يُشيعه الفوارس والمشاة

وحلّ المجدُ حفرته، وأمس … يُطِيف به النوائحُ والبُكاة

هوى عن أوج رفعته رياضٌ … وحازته القرونُ الخالياتُ

كأَن لم يملأ الدنيا فَعالاً … ولا هَتَفَتْ بدولته الرُّواة

نعاه البرقُ مُضْطرِباً، فماجَتْ … نجومٌ في السماءِ مُحلِّقات

كأَن الشمسَ قد نُعِيَتْ عِشاءً … إليها فهْيَ حَسْرَى كاسفات

صحيفة ُ غابرٍ طُوِيَتْ، وولَّت … على آثارِ من درجوا وفاتوا

يقول الآخرون إذا تلوها: … كذلك فليلدن الأمهات

جزى الله الرضا أَبوَيْ رياضٍ … هما غرسا وللوطن النبات

بنو الدنيا على سفرٍ عقيمٍ … وأَسفارُ النوابِغِ مُرجعات

أرى الأمواتَ يجمعهم نشورٌ … وكم بعثَ النوابغُ يومَ ماتوا

صلاحُ الأرضِ أحياءٌ وموتى … وزينتُها وأَنجُمُها الهُداة

قرائحُهم وأَيديهم عليها … هدى ، ويسارة ٌ، ومحسنات

فلو طُلِبَتْ لهم دِيَة ٌ لقالت … كنوزُ الأَرضِ: نحن هي الدَّيات

أبا الوطنِ الأسيفِ، بكتكَ مصرُ … كما بكت الأبَ الكهفَ البناتُ

قضيتَ لها الحقوقَ فتى وكهلاً … ويومَ كبرتَ وانحنتِ القناة

ويومَ النَّهْيُ للأُمراءِ فيها … ويومَ الآمرون بها العُصاة

فكنتَ على حكومتها سراجاً … إذا بسطتْ دجاها المشكلات

يزيد الشيبُ نفسَك من حياة ٍ … إذا نقصتْ مع الشيب الحياة

وتملؤك السِّنُونَ قوى ً وعزماً … إذا قيل: السنون مثبطات

كسيْف الهندِ أَبْلَى حين فُلَّتْ … ورَقَّتْ صَفحتاه والظُّبات

رفيعُ القدرِ بالأمصار يرني … كما نظرتْ إلى النجم السراة

كأنك في سماءِ الملكِ يحيى … وآلك في السماء النيرات

تسوسُ الأمرَ، لا يعطي نفاذاً … عليك الآمرون ولا النهاة

إذا الوزراءُ لم يُعطوا قِياداً … نبذتهمُ كأَنهمُ النَّواة

زَماعٌ في انقباضٍ في اختيالٍ … كذلك كان بسمركُ الثُّبات

صِفاتٌ بَلَّغتْك ذُرَى المعالي … كذلك ترفع الرجلَ الصفات

وجدتَ المجدَ في الدنيا لِواءً … تلقَّاه المقاديمُ الأباة

ويبقى الناسُ ما داموا رعايا … ويبقى المقدمون همُ الرعاة

رياضُ، طويتَ قرناً ما طوته … مع المأْمون دِجْلة ُ والفرات

تمنت منه أياماً تحلَّى … بها الدولُ الخوالي الباذخات

وودّ القيصران لو أنَّ روما … عليها من حَضارته سِمات

حَباكَ الله حاشِيَتَيْهِ عُمْراً … وأعمارُ الكرام مباركات

فقمتَ عليه تجربة ً وخبراً … ومدرسة ُ الرجال التجربات

تمرُّ عليك كالآيات تَتْرَى … أَحاديثُ المُنى والتُّرَّهات

فأَدركتَ البخارَ وكان طفلاً … فشبَّ، فبايعته الصافنات

تجاب على جناحيه الفيافي … وتحكم في الرياح المنشآت

ويصعد في السماء على بروجٍ … غداً هي في العوالم بارجات

وبَيْنا الكهرُباءُ تُعَدُّ خرقاً … إذا هي كلَّ يومٍ خارقات

ودان البحرُ حتى خِيضَ عُمقاً … وقيدتْ بالعنان السافيات

وبلغتَ الرسائلُ، لا جناحٌ … يَجوب بها البحارَ، ولا أَداة

كأن القطرَ حين يجيب قطراً … ضمائرُ بينها مُتناجِيات

سأَلْتُكَ: ما المنِيَّة ُ؟ أَيُّ كأْسٍ؟ … وكيف مَذاقُها؟ ومَن السُّقاة ؟

وماذا يُوجِس الإنسانُ منها … إذا غَصَّت بعلْقَمها اللَّهاة ؟

وأيُّ المصرعين أشدُّ: موتٌ … على عِلْمٍ، أَم الموتُ الفَوات؟

وهل تقع النفوسُ على أَمانٍ … كما وقعتْ على الحرمِ القطاة ؟

وتخلد أم كزعم القول تبلى … كما تبلى العظامُ أو الرفات؟

تعالى الله قابضها إليه … وناعشها كما انتعش النبات

وجازيها النعيمَ حِمى ً أَميناً … وعيشاً لا تُكدِّره أَذاة

أمثلك ضائقٌ بالحقِّ ذرعاً … وفي برديك كان له حماة ؟

أَليس الحقُّ أَن العيشَ فانٍ … وأن الحيَّ غايته الممات؟

فنمْ ما شئت، لا توحشكَ دنيا … ولا يحزنكَ من عيشٍ فوات

تصرَّمت الشبيبة ُ والليالي … وغاب الأهلُ، واحتجب اللدات

خلتْ حلمية ٌ ممن بناها … فكيف البيتُ حولك والبنات؟

أفيه من المحلة قوتُ يوم … ومن نِعمٍ مَلأْنَ الطوْدَ شاة ؟

وهل لك من حريرهما وسادٌ … إذا خشنتْ لجنبيك الصفاة ؟

تولَّى الكلُّ، لم ينفعك منه … سوى ما كان يَلتقِط العُفاة

عِبادُ الله أَكرمُهمْ عليه … كِرامٌ في بَرِيَّته، أُساة

كمائدة ِ المسيحِ، يقوم بُؤْسٌ … حواليها، وتقعدُ بائسات

أخذتكَ في الحياة ِ على هناتٍ … وأيُّ الناس ليس له هنات؟

فصفحاً في الترابِ إذا التقينا … ولُوشِيَتِ العداوة ُ والتِّرات

خُلِقتُ كأَنَّنيَ عيسى ، حرامٌ … على قلبي الضَّغِينة ُ والشَّمات

يُساءُ إليَّ أَحياناً، فأَمضي … كريماً، لا أَقوت كما أُقات

وعندي للرجال وإن تجافوا … منازلُ في الحفاوة ِ لا تفات

طلعتَ على النديَّ بعين شمسٍ … فوافَتْها بشمسَيْنِ الغداة

على ما كان يندو القومُ فيها … توافى الجمعُ وائتمرَ السراة

تملَّكهم وقارُك في خشوعٍ … كما نظمتْ مقيميها الصلاة

رأَيتَ وُجوهَ قومِك كيف جَلَّتْ … وكيف تَرعرعَتْ مصرُ الفتاة

أُجِيلَ الرأيُ بين يديك حتى … تبينت الرزانة ُ والحصاة

وأنتَ على أعنَّتهم قديرٌ … وهم بك في الذي تقْضي حُفاة

إذا أَبدى الشبابُ هَوى ً وزَهْواً … أشار إليه حلمكَ والأناة

فهلاَّ قُمْتَ في النادي خطيباً … لك الكَلِمُ الكبارُ الخالدات؟

تفجَّر حكمة َ التسعين فيه … فآذانُ الشبيبة ِ صاديات؟

تقول: متى أَرى الجيرانَ عادوا … وَضُمَّ على الإخاءِ لهم شَتات؟

وأَين أُولو النُّهَى مِنَّا ومنهم … عسى يَأْسُون ما جرح الغُلاة ؟

مَشَتْ بين العشيرة رُسْلُ شرٍّ … وفرَّقتْ الظنونَ السيئات

إذا الثقة ُ اضمحلتْ بين قومٍ … تمزقت الروابطُ والصلات

فثقْ، فعسى الذين ارتبت فيهم … على الأيام إخوانٌ ثِقات

وربَّ محببٍ لا صبرَ عنه … بدتْ لك في محبته بداة

ومكروهٍ على أَخَذاتِ ظنٍّ … تحبِّبُهُ إليك التجرِبات

بنى الأوطان، هبّوا، ثم هبّوا … فبغضُ الموتِ يجليه السبات

مشى للمجد خطفَ البرقِ قومٌ … ونحن إذا مشينا السلحفاة

يعدّون القوى براً وبحراً … وعدتنا الأماني الكاذبات