تلك الطبيعة ُ، قِف بنا يا ساري – أحمد شوقي

تلك الطبيعة ُ، قِف بنا يا ساري … حتى أُريكَ بديعَ صُنْعِ الباري

الأَرضُ حولك والسماءُ اهتزَّتا … لروائع الآياتِ والآثار

من كلّ ناطقة ِ الجلال، كأَنها … أُمُّ الكتاب على لسان القاري

دَلَّت عَلى مَلِكِ المُلوكِ فَلَم تَدَع … لِأَدِلَّةِ الفُقَهاءِ وَالأَحبارِ

مَن شَكَّ فيهِ فَنَظرَةٌ في صُنعِهِ … تَمحو أَثيمَ الشَكِّ وَالإِنكارِ

كَشَفَ الغَطاءُ عَنِ الطُرولِ وَأَشرَقَت … مِنهُ الطَبيعَةُ غَيرَ ذاتِ سِتارِ

شَبَّهتُها بَلقيسَ فَوقَ سَريرِها … في نَضرَةٍ وَمَواكِبٍ وَجَواري

أَو (بِاِبنِ داوُدٍ) وَواسِعِ مُلكِهِ … وَمَعالِمٍ لِلعِزِّ فيهِ كِبارِ

هوجُ الرِياحِ خَواشِعٌ في بابِهِ … وَالطَيرُ فيهِ نَواكِسُ المِنقارِ

قامَت عَلى ضاحي الجِنانِ كَأَنَّها … رَضوانُ يُزجي الخُلدُ لِلأَبرارِ

كَم في الخَمائِلِ وَهيَ بَعضُ إِمائِها … مِن ذاتِ خِلخالٍ وَذاتِ سِوارِ

وَحَسيرَةٍ عَنها الثِيابُ وَبَضَّةٍ … في الناعِماتِ تَجُرُّ فَضلَ إِزارِ

وَضَحوكِ سِنٍّ تَملَأُ الدُنيا سَنىً … وَغَريقَةٍ في دَمعِها المِدرارِ

وَوَحيدَةٍ بِالنَجدِ تَشكو وَحشَةً … وَكَثيرَةِ الأَترابِ بِالأَغوارِ

وَلَقَد تَمُرُّ عَلى الغَديرِ تَخالُهُ … وَالنَبتُ مِرآةً زَهَت بِإِطارِ

حُلوُ التَسَلسُلِ مَوجُهُ وَجَريرُهُ … كَأَنامِلٍ مَرَّت عَلى أَوتارِ

مَدَّت سَواعِدُ مائِهِ وَتَأَلَّقَت … فيها الجَواهِرُ مِن حَصىً وَجِمارِ

يَنسابُ في مُخضَلَّةٍ مُبتَلَّةٍ … مَنسوجَةٍ مِن سُندُسٍ وَنُضارِ

زَهراءَ عَونِ العاشِقينَ عَلى الهَوى … مُختارَةِ الشُعَراءِ في آذارِ

قامَ الجَليدُ بِها وَسالَ كَأَنَّهُ … دَمعُ الصَبابَةِ بَلَّ غُضنَ عَذارِ

وَتَرى السَماءَ ضُحىً وَفي جُنحِ الدُجى … مُنشَقَّةً مِن أَنهُرٍ وَبِحارِ

في كُلِّ ناحِيَةٍ سَلَكتَ وَمَذهَبٍ … جَبَلانِ مِن صَخرٍ وَماءٍ جاري

مِن كُلِّ مُنهَمِرِ الجَوانِبِ وَالذُرى … غَمرِ الحَضيضِ مُحَلَّلٍ بِوَقارِ

عَقَدَ الضَريبُ لَهُ عَمامَةَ فارِعٍ … جَمِّ المَهابَةِ مِن شُيوخِ نِزارِ

وَمُكَذِّبٍ بِالجِنِّ ريعَ لِصَوتِها … في الماءِ مُنحَدِراً وَفي التَيّارِ

مَلَأَ الفَضاءَ عَلى المَسامِعِ ضَجَّةً … فَكَأَنَّما مَلَأَ الجِهاتِ ضَواري

وَكَأَنَّما طوفانُ نوحٍ ما نَرى … وَالفُلكُ قَد مُسِخَت حَثيثَ قِطارِ

يَجري عَلى مَثَلِ الصِراطِ وَتارَةً … ما بَينَ هاوِيَةٍ وَجُرفٍ هاري

جابَ المَمالِكَ حَزنَها وَسُهولَها … وَطَوى شِعابَ الصِربِ وَالبُلغارِ

حَتّى رَمى بِرِحالِنا وَرَجائِنا … في ساحِ مَأمولٍ عَزيزِ الجارِ

مَلِكٌ بِمَفرَقِهِ إِذا اِستَقبَلتَهُ … تاجانِ تاجُ هُدىً وَتاجُ فَخارِ

سَكَنَ الثُرَيّا مُستَقَرَّ جَلالِهِ … وَمَشَت مَكارِمُهُ إِلى الأَمصارِ

فَالشَرقُ يُسقى ديمَةً بِيَمينِهِ … وَالغَربُ تُمطِرُهُ غُيوثُ يَسارِ

وَمَدائِنُ البَرَّينِ في إِعظامِهِ … وَعَوالِمُ البَحرَينِ في الإِكبارِ

اللَهُ أَيَّدَهُ بِآسادِ الشَرى … في صورَةِ المُتَدَجِّجِ الجَرّارِ

الصاعِدينَ إِلى العَدُوِّ عَلى الظُبى … النازِلينَ عَلى القَنا الخَطّارِ

المُشتَرينَ اللَهَ بِالأَبناءِ وَال … أَزواجِ وَالأَموالِ وَالأَعمارِ

القائِمينَ عَلى لِواءِ نَبِيِّهِ … المُنزَلينَ مَنازِلَ الأَنصارِ

يا عَرشَ (قُسطَنطينَ) نِلتَ مَكانَةً … لَم تُعطَها في سالِفِ الأَعصارِ

شُرِّفتَ بِالصَديقِ وَالفاروقِ بَل … بِالأَقرَبِ الأَدنى مِنَ المُختارِ

حامي الخِلافَةِ مَجدِها وَكِيانِها … بِالرَأيِ آوِنَةً وَبِالبَتّارِ

تاهَت فُروقُ عَلى العَواصِمِ وَاِزدَهَت … بِجُلوسِ أَصيَدَ باذِخِ المِقدارِ

(جَمِّ الجَلالِ كَأَنَّما كُرسِيُّهُ … جُزءٌ مِنَ الكُرسِيِّ ذي الأَنوارِ)

أَخَذَت عَلى البوسفورِ زُخرُفَها دُجًى … وَتَلَألَأَت كَمَنازِلِ الأَقمارِ

فَالبَدرُ يَنظُرُ مِن نَوافِذِ مَنزِلٍ … وَالشَمسُ ثَمَّ مُطِلَّةٌ مِن دارِ

وَكَواكِبُ الجَوزاءِ تَخطُرُ في الرُبى … وَالنَسرُ مَطلَعُهُ مِنَ الأَشجارِ

وَاِسمُ الخَليفَةِ في الجِهاتِ مُنَوِّرٌ … تَبدو السَبيلُ بِهِ وَيَهدي الساري

كَتَبوهُ في شُرَفِ القُصورِ وَطالَما … كَتَبوهُ في الأَسماعِ وَالأَبصارِ

يا واحِدَ الإِسلامِ غَيرَ مُدافِعٍ … أَنا في زَمانِكَ واحِدُ الأَشعارِ

لي في ثَنائِكَ _وَهوَ باقٍ خالِدٌ_ … شَعرٌ عَلى الشِعرى المَنيعَةِ زاري

أَخلَصتُ حُبّي في الإِمامِ دِيانَةً … وَجَعَلتُهُ حَتّى المَماتِ شِعاري

لَم أَلتَمِس عَرضَ الحَياةِ وَإِنَّما … أَقرَضتُهُ في اللَهِ وَالمُختارِ

إِنَّ الصَنيعَةَ لا تَكونُ كَريمَةً … حَتّى تُقَلِّدُها كَريمَ نِجارِ

وَالحُبُّ لَيسَ بِصادِقٍ ما لَم تَكُن … حَسَنَ التَكَرُّمِ فيهِ وَالإيثارِ

وَالشِعرُ إِنجيلٌ إِذا اِستَعمَلتَهُ … في نَشرِ مَكرُمَةٍ وَسَترِ عَوارِ

وَثَنَيتَ عَن كَدَرِ الحِياضِ عِنانَهُ … إِنَّ الأَديبَ مُسامِحٌ وَمُداري

عِندَ العَواهِلِ مِن سِياسَةِ دَهرِهِم … سِرٌّ وَعِندَكَ سائِرُ الأَسرارِ

هَذا مُقامٌ أَنتَ فيهِ مُحَمَّدٌ … أَعداءُ ذاتِكَ فِرقَةٌ في النارِ

إِنَّ الهِلالَ _وَأَنتَ وَحدَكَ كَهفُهُ_ … بَينَ المَعاقِلِ مِنكَ وَالأَسوارِ

لَم يَبقَ غَيرُكَ مَن يَقولُ أَصونُهُ … صُنهُ بِحَولِ الواحِدِ القَهّارِ