مضى عصر الرجال الأعاظم – جبران خليل جبران
مضى عصر الرجال الأعاظم … وأوحش منهم أنس تلك المعالم
معاهد في بيروت للعلم عطلت … وأيامها كانت بهم كالمواسم
تولوا سراعا كاتب إثر كاتب … وبانوا تباعا عالم إثر عالم
فواحر قلبا أين فيهم مهذبي … وأين رفيقي في الصبا ومخالمي
عماد بصرح المجد قاموا فقوضوا … دراكا ودك اليوم آخر قائم
هوى العلم الفردالذي كان بعدهم … عزاء لأرباب النهى والعزائم
أقلب طرفي حيث كانوا فلا أرى … به غير أنقاض الذرى والدعائم
وأنكر في وجه البقاء عبوسة … تواري سنى تلك الوجوه البواسم
حقائق مرت بالحياة هنيهة … كما مرت الأوهام في ذهن واهم
فلم يبق منها غير ما الذكر حافظ … إلى أجل عن عهدها المتقادم
ورسم يرى الأعقاب فيه دلالة … على دقة التمثيل في صنع راسم
إذا جسموه لم يكن في جلاله … سوى شبه لشخص أغبر قاتم
يلوح بعيدا وهو دان كأنه … تأوب طيف في مخيلة حالم
فيا بخس ما باغ المفادي بعمره … على باذل في قومه أو مساوم
على أنه يستسلف النفس شكره … وليس لشكر من سواها برائم
نعيك عبدالله في الشرق كله … أسال شؤونا بالدموع السواجم
وأورى زناد البرق حزنا فلجلجت … كما لجلجت بالنطق لسن التراجم
فبث شجاه كل ربل ولم يكن … سوى مأتم تعداد تلك المآتم
وشاع الأسى في مصر فهي حزينة … تنوح شواديها نواح الحمائم
ولا وجه في أحيائها غير ساهم … ولا قلب في أحنائها غير واجم
لك الله من بان رجالا حمى بهم … حمى عاث فيه الجهل من شر هادم
على العلم والتعليم أرصد وقته … فأحرز منه مغنما كل غانم
تلاميذه في كل مطلع كوكب … يبثون فضل الضادبين العوالم
وفي كل بحث كتبه تورد النهى … موارد أصفى من نطاف الغمائم
وتهدي إليها من مناجم فكره … نفائش أغلى من كنوز المناجم
بأبدع ما كانت بلاغة ناثر … وأبرع ما كات صياغة ناظم
كفى اللغة الفصحى فخارا بمعجم … إليه انتهى الاتقان بين المعاجم
وحسب الروايات الحديثة عتقها … بإعرابه فيها فنون الأعاج
فأما سجاياه فقل في كمالها … ولا تخش في الإطراء لومة لائم
حليم بلا ضعف رصين بلا ونى … شديد مراس في كفاح المظالم
وما اسطاع يلفيه الغداة وليه … معينا على دفع الأذى والمغارم
يصرف إلا في الدنايا من المنى … نوازع قلب مولع بالعظائم
ويرضيه في الإعسار موفور مجده … ولليس إذا الإيسار فات بناقم
قضى العمر ميمون النقيبة لم تشب … طهارة برديه بوصمة واصم
ولم يأل جهدا في رعاية ذمة … ولم ينس حقا للعلى والمكارم
أحاطت به زينات دنياه فانثنى … ولم تغره زيناتهابالمحارم
فكانت له خير الفواتح بالتقى … وكانت له في الله خير الخواتم