لذكراك يا حفني في النفس أشجان – جبران خليل جبران
لذكراك يا حفني في النفس أشجان … وكيف سلوي للرفاق الأولى لبانوا
تولوا وأبقاني زمان بعدهم … أعز إذا عزوا أهون إذا هانوا
نوابغ آداب وعلم تلاحقوا … ومكانوا من الآداب والعلم ما كانوا
بعيني ما طالت حياتي شخوصهم … وفي السمع أقوال عذاب وألحان
لقد تركوا سفرا من المجد حافلا … وكل له في ذلك السفر عنوان
وتحت اسم حفني معان كثيرة … هو الضوء إن حللته وهي ألوان
فحفني كان الكاتب الأوحد الذي … خلت قبل أنت حظى به مصر أزمان
منارة عهد للحضارة زاهر … بشتى حلاها يستضيء ويزدان
مباحثته في كل فن طرائف … يجملها سبك بديع وتبيان
تنير وتشجي قارئيها كأنما … تصيب المنى فيها عقول وأذهان
رسائله منسوجة نسج وحدها … تروع بوشي فيه للطرف أفنان
وتنفح فيها نفحة عبقرية … نسيمات روض فيه ورد وريحان
وحفني كان الشاعر المبدع الذي … قصائده در نظمن وعقيان
قريض إذا استنشدته ذقت طيبه … وحسك نشوان وروحك نشوان
كمشمولة من مشتهى النفس قطرت … يعاطيكها في مجلس النس ندمان
يلوح بها المعنى الطليق وإنما … هو الوحي وحى لا عروض وأوزان
وحفني كان العالم العامل الذي … له القول طوع والبلاغة مذعان
مثقف نشء العصر أيام لم تكن … وسائل تقريب ولم يكن إتقان
فاتوتي ذخرا من غوالي دروسه … غرانيق فازوا في الحياة وفتيان
يعز الحمى منهم بكل مهذب … له أدب جم وفضل وعرفان
و حفني كان الجهبذ اللبق الذي … به عاد للفصحى على اللغو سلطان
ورد على القرآن محم رسمه … كما خه في سالف الدهر عثمان
حفني في ناديه ذو الكلم التي … بأبدع منها لا تشنف آذان
عبارته تجري بأشفى من الندى … ومنطقه من حكمة الدهر ريان
هو الأسمر العبل البطيء حراكه … ولكنه روح تخف ووجدان
فإن يك إنسان يباهيه طلعة … فليس يباهيه بمعناه إنسان
وحفني قاض راقب الله عالما … بأن الذي يحيى إذا اقتص رحمن
فبالغ في استبطان كل سريرة … محاذرة أن يخطيء الحق برهان
وكائن طوى من ليلة نابغية … بها رقد الشاكي وقاضيه سهران
وفي الدين أو في العلم صرف جهده … بأحسن ما يوحيه عقل وإيمان
يمد بما في الوسع جامعتيهما … وكل له مرمى وكل له شان
فهذي لها منه نصير ومرشد … وهذي لها منه ظهير ومعوان
إذا ائتمر المستشرقون وقلبت … تواريخنا مما طو الين والآن
فحفني منطيق المعارف والنهى … هناك وصوت للكنانة رنا
وفي كل ما يأتيه لا يستفزه … أثمت غنم أم هنالك شركان
فواحربا من طارئين تحالفا … عليه فدكاه كما دك بنيان
اصيب بسهم جنبه فهو صابر … وآخر أصمى بكره فهو ثكلان
و ما ملك من يحسن العيش بعدها … عليها سلام في الجنان ورصوان
وهي الجلد الباقي به إذ ترحلت … وأودى أسى يبكيه أهل وإخوان
مصاب أصاب العرب بدوا وحضرا … فقحطان ملكوم الفؤاد وعدنان
وعز أسا دار السلام وصوحت … بقاع العزيز الخضر واهتز لبنان
وروعت الفسطاط لكنها طغى … على حزنها في ذلك اليوم أحزان
أجاب بنوها مهرعين وقد دعا … إلى الذود ظلم حملوه وعدوان
وفارقت الغيد الخدور عوامدا … إلى حيث يلقى الروع شيب وشبان
كفى شاغلا أن يشغلوا عن نفوسهم … لينصف شعب مستضام وأوطان
فيقتحموا الخطار عولا وما بهم … أيردى كهول أو يعاجل ولدان
ويزدحموا مستبسلين ويصطلوا … على الكر نيرانا تليهن نيران
ففي جو الاستشهاد والموت فاتك … ولليأس إزراء عليه وطغيان
تولى عن الجلى معد رجالها … فإما غفت عيناه فالقلب يقظان
وإن لم ير النصر العزيز فروحه … من الموطن العلى به اليوم جذلان
وما همه إن لم يوفوه حقه … إذا رد حق القوم والبغي خزيان
سلام على حفني إن بلاده … ترددد ذكراه وفي النفس تحيان
إذا هو لم يكرم على قدر فضله … فما البطء إجحاف وما الصبر سلوا ن
أما كان حكم الدهر في الناس واحدا … ولم تختلف فيه شعوب وبلدان
فقدم مجدودا وأخر غيره … تحكم نجم والفرقان أقران
ولكن عقبى السوء سوء محتم … وما كان إحسانا فعقباه غحسان
بلادك يا أفوى بنيها وفية … مشيئتها تقضى وإن عاق حدثان
سيبقى على الأيام مجدك كاملا … برغم العوادي ليس يعروه نقصان
وإن تنس أعمال رهائن وقتها … فليس لما خلدت في مصر نسيان