فجر السلام – بدر شاكر السياب

لا شهوة الموت في أعراق جزار … تقوى عليها ولا سيل من النار

الموت أزهى سدا من أن يشابكها … وهي التي مدت الموتى بأعمار

وهي التى لمت الأحقاب واعتصرت … مما انطوى في دجاها فيض أنوار

ومست الصخر فاخضلت جوانبه … بالسيل الغض والريحان والنار

هذي اليد السمحة البيضاء كم مسحت … جرحا وكم أزهت أنفاس جبار

وأطلقت في الدجى الأعمى حمامتها … بيضاء كالمشعل الوهاج في غار

كأنما فجرت ماء لظامئة … أو أطلعت كوكبا يأتمه الساري

سل تاجر الموت كيف اصطك من فزع … لما رآها وكم أودت بتجار

وسمرت نعش طاغوت بما شرعت … كفاه من خنجر يدمى وأظفار

أما كفاه الذي امتصت على مهل … أنيابه من دم الغرثان والعاري

وما طفا عن شفاه الطفل من لبن … أو حلمة المومس الشوهاء من عار

فانقض من كهفه الداجي ليبعثها … شعواء كالبحر ان دوى باعصار

حتى اذا امتار من أعمار مددا … واقتات مما ستحيا عمره الهاري

أهوى على ظهر لم يقض يعصره … عن سلعة تعبر سلعة الدنيا فدولار

عيون وراء المدى … تنام و ترجو الغدا

دفوق السنا باسطا … لأحلى رؤاها يدا

ستجبلها ولقعا … نقيا كذوب الندى

يكفر عما جنت … عصور طواها الردى

أيفزعها المجرمون … بما أشرعوا من مدى

كأن سياجا يقام … ليحجز عنها الغدا

و في الحقل بين الظلال … عذارى حملن السلال

لهن الهوى و الغناء … و للظالمين الغلال

فبعد الشقاء المرير … وغب الليالي الطوال

دنا موعد للحصاد … فغنينه للرجال

أيحسدهن الطغاة … على منه للخيال

على ضحكة للربيع … و أنشودة للتلال

و شيخ يرب الحفيد … بأنباء قطر بعيد

تحدى حراب الغزاة … و غيبها في الجليد

فأنبت منها سنابل … ضوء الصباح الوليد

هنالك يبني الحياة … كما شاء جيل سعيد

عمالقة بالفعال … ورواد كون جديد

و آلهة يخلقون … آلهة من عبيد

هنالك يرن السلام … كأهداب طفل ينام

و يضحط ملء الحقول … و في أغنيات الغرام

و ينبض حيث المعامل … يجرحن قلب الظلام

و في المدن الضاحيات … يندس وسط الزحام

و حيث التقت و هي ترنو … عيون الورى في وئام

برغم اللظى و الحديد … نمت زهرة للسلام

و انداح من لجة الليل التي شحبت … شدق يزيد اتساعا كلما اقتربا

كأن مقبرة طال الزمان بها … وازلزت فهي تبدي جوفها الخربا

تعلقت أعظم الموتى به ورنت … ألحظها الحور فيما يشبه الغضبا

كأنما صرت الأسنان من حنق … شيئا و سخرية منها بمن نكبا

كأن كل قتيل رغم سكرته … بالصمت يسأل أما أثكلت وأبا

وزوجة و بنين استقتلوا و أخا … من كان فيما لقينا من ردى سببا

شدق يزيد اتساعا كلما رفعت … ستر الدجى خفقت من كوكب غربا

آلى على الأرض أن يجتث عاليها … سفلا و يصفع من يأتي بمن ذهبا

و لا يريق دما إلا و أضرمه … نارا و ذرى رمادا منه أو لهبا

تسعى به الريح في الآفاق ناسجة … للشمس من جذوة أو من دم حجبا

فالجو مقبرة كبرى معلقة … تستعرض الشمس في ذراتها الحقبا

و الأرض كالأبرص المنبوذ هرأة … داء و عانى عليه الجوع و التعبا

تكدست فوقها الأجساد ناضحة … قيحا ودوى عويل الناس و اصطخبا

من كل رافعة جيدا كأن يدا … جبارة جاذبيه الطول فانجذبا

وانمط مثل عجين الرخو مرضعها … لصق الثرى و اكفهر الوجه و انقلبا

و هي التي بالأمس كانت كما … رجى خيال للهوى الأول

يموج في مرآتها ظلها … سوسنة بيضاء في جدول

و كان نهداها إذا رنحت … ريح الصبا من ثوبها المخمل

يشف تكويراهما عن سنا … يطفو بطوقيها إلى المجتلى

كم عاشق كانت أمانيه أن … يرتشف النور على جيدها

كان يغذيها إذا قطبت … بالروح و الآمال في عيدها

يا زهرة عاشقها لم يذد … من زعزع هبت لتبديدها

لو كان يهواك ارتمي دونها … سدا و نجاك بتصعيدها

ظل لقابييل ألقى عبء ظلمته … فحما يسود البرايا حوله القلق

فحما تصدى له الباغي بمقلته … يذكيه منها لظى يخبو و يأتلق

إذا تضرم فاندك الفضاء جذى … غضبى و نش الدم الفوار و العرق

وانقض من حيث تهوى الشمس غاربة … ليل من القاصفات السود أو شفق

جن الرضيع الذي يحبو وهب على … رجليه يعدو ويلوي جسمه اعنق

من فرط ما طال و استرخى و قد صهرت … أعراقه الزرق نارا فيه تختنق

كأن كفيه مذراتا ثرى و دم … لا ما يمد ابن عام لفه الغسق

و لألأ البدر فاستدناه و انبسطت … يمناه بالشوق حتى أظلم الأفق

و أزلزت لثة الشيخ التي هرئت … من شدقه الأدرد المغفور تندلق

تنساح كاللعنه السوداء يطلقها … بعد الردى نسله المطموس و الحنق

يا ربما سرت الموتى بأن هلكوا … قذائف كعيون الجن تنطلق

شدت عليها يد عجفاء يدفعها … حقد ويقتات من أعصابها فرق

شلت يدا طالما التفت أصابعها … ثم ارتخت عن وليد بات يختنق

و استجهضت كل أنثى و هي تعضبها … و استدفأت باللظى و المدن تحترق

و قوست من ظهور كي يطاولها … قزح يلج ارتفاعا و هي تنسحق

و تطل من أفق يفتحه … الشروق إلى الحافي

أيد تشير إلى الرقاب … المشرئبة لا تخافي

لن يفصد الجلاد عرقا … من عروقك لارتشاف

أيد تلوح بالسلام … كأن موشكه الضحايا

تكتال منهن البقاء … كأن أحضان الصبايا

أودعتها الأطفال لما … ينطفوا حذر المنايا

و لكم تناقلت المعابر … و الدروب صدى نداء

تتشابك الرغبات مثب … الغاب فيه على رجاء

هو معبر الأجيال من … خطر يهم إلى نجاء

تعوي الذئاب و ما يزال … يجيش كالدم في العروق

يند العواء و يدفع المقل … الغضاب عن الطريق

و يظل يطفئها كما … انطفأت بقايا من حريق

و يظل يخفق بالسلام … كأنما نشرت جناحا

فيه الحمامة يلطم … الظلماء فانفرطت و لاحا

من شقها الألق الحبيس … و ظل ينطف ثم ساحا

صور لنفسك في الخيال … أباك في وسط الحريق

يدعوك بالصوت الأبح … وقد تخبط كالغريق

و يمد من خلل الدخان … يديه يبحث عن طريق

و انظر لأمك و هي ترقد … في التراب على قفاها

تتجاذب العقبان ثديي … ها و يفقا ناظراها

و تلق من دمها الكلاب … و ينخر الدود الشفاها

و تمل زوجك و هي تركض … بين أشباح الجياع

شعثاء تلهث و الرياح … تصكها دون انقطاع

حملت قميصك في ذراع … و الرضيعة في ذراع

أو جثة ابنك و هي تزحف … دون رأس في الدماء

أو مرضع ابنتك الممزق … و هو يسحق بالحذاء

ورفات موتاك الرميم … وقد تناثر في الهواء

و إذا رأيت عيون جير … تك الرضية المحار

ترتج غضبى في قرارة … جدول ضحل القرار

أفلا تطاردك العيون … أما تبصك في احتقار

صور لنفسك في الخيال … أباك في ليل الشتاء

و كأنما ردت عليه صباه … أخيلة الصلاء

ما زال يقرأ و الصغار … يضاحكونك في الخفاء

و انظر لأمك وهي تنصت … أي عجب يزدهيها

عادت إلى الصوت الرتيب … إلى الغوابر من سنيها

و تمثلته فتى يجمع … ساعديه و يحتويها

و ابسط لزوجك و انتشلها … و هي تلهث في الرخام

كفا ستختم إذ تو … قع بالمداد على السلام

فرج الجراح فتوقف ال … دم و الدموع عن انسجام

الشاطيء الضحاك و الأ … صداء و القمر الطروي

سكران يغرق في جدا … ئلها و تهمسه الطيوب

و تضمها و يطل من خلل … العيون مدى رحيب

تتنفس الأضواء فيه … كأنما سمعت غناء

حلو الرنين فراقصته … هناك أجنحة اراءى

بيضاء يتبعها الص … غار بأعين تندى أخاء

ليل العبودية النكراء صدعه … مهوى طواغيت و استبسال ثوار

حتى إذا شمر الباغي ليرأبه … شقا بأن يصهر الأجساد بالنار

هبت أعاصير تذرو ما تؤججه … في وجهه الراعب النضاح اللعار

و استيقظ الشرق عملاقا تموج على … عينيه دنيا من الأحقاد و الثار

يرمي و يرمي و يسعى نحو غايته … في لجة من دجى غضبى و أنوار

تطفو عليها الضحايا أو تغوص إلى … أعماقها بين تيار و تيار

راياته الداميات الظافرات كوى … حمراء ينشق عنها سجنه الضاري

ألقى بها السلم في وجه الطغاة ردى … و في صعيد الضحايا حمر أزهار

و حطموا أفوق الغل الذي سحبوا … كي يطرقوا منه تابوتا لجبار

حيث اشرأبت على جرف الردى أمم … شدت إلى الصخر إلا بعض أحرار

و ابتاع بالدرهم المجبول من دمها … فيض الدم الثر منها شر تجار

و استأجروها لصنع الموت منه لها … بالزاد يبقى دما فيها لجزار

أعمارها مثل بئر للدم ابتلعت … جيلا سواها بهن ابتاعه الشاري

و تطل من أفق يفتحه … الشروق إلى الحفافي

أيد تشير إلى الرقاب … المشرئبة لا تخافي

لن يفصد الجلاد عرقا … من عروقك لارتشاف

و لكم تناقلت المعابر … و الدروب صدى نداء

تتشابك الرغبات مثل … الغاب فيه على رجاء

هو معبر الأجيال … من خطر يهم إلى نجاء

ما زال يخفق بالسلام … كأنما نشرت جناحا

فيه الحمامة يلطم … الظلماء فانفطرت و لاحا

من شقها الألق الحبيس … و ظل ينعطف ثم ساحا