سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟ – أحمد شوقي
سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟ … ورِثاءُ الأَبِ دَيْنٌ أَيُّ دَيْنْ
أَيُّها اللُّوّامُ، ما أَظلمَكم … أينَ لي العقلُ الذي يسعد أينْ؟
يا أبي، ما أنتَ في ذا أولٌ … كلُّ نفس للمنايا فرضُ عَيْنْ
هلكَتْ قبلك ناسٌ وقرَى … ونَعى الناعون خيرَ الثقلين
غاية ُ المرءِ وإن طالَ المدى … آخذٌ يأخذه بالأصغرين
وطبيبٌ يتولى عاجزاً … نافضاً من طبَّه خفيْ حنين
إنَّ للموتِ يداً إن ضَرَبَتْ … أَوشكَتْ تصْدعُ شملَ الفَرْقَدَيْنْ
تنفذ الجوَّ على عقبانه … وتلاقي الليثَ بين الجبلين
وتحطُّ الفرخَ من أَيْكَته … وتنال الببَّغا في المئتين
أنا منْ مات، ومنْ مات أنا … لقي الموتَ كلانا مرتين
نحن كنا مهجة ً في بدنٍ … ثم صِرْنا مُهجة ً في بَدَنَيْن
ثم عدنا مهجة في بدنٍ … ثم نُلقى جُثَّة ً في كَفَنَيْن
ثم نَحيا في عليٍّ بعدَنا … وبه نُبْعَثُ أُولى البَعْثتين
انظر الكونَ وقلْ في وصفه … قل: هما الرحمة ُ في مَرْحَمتين
فقدا الجنة َ في إيجادنا … ونَعمْنا منهما في جَنّتين
وهما العذرُ إذا ما أُغضِبَا … وهما الصّفحُ لنا مُسْتَرْضَيَيْن
ليتَ شعري أيُّ حيٍّ لم يدن … بالذي دَانا به مُبتدِئَيْن؟
ما أَبِي إلاَّ أَخٌ فارَقْتُه … وأَماتَ الرُّسْلَ إلاَّ الوالدين
طالما قمنا إلى مائدة ٍ … كانت الكسرة ُ فيها كسرتين
وشربنا من إناءٍ واحدٍ … وغسلنا بعدَ ذا فيه اليدين
وتمشَّيْنا يَدي في يدِه … من رآنا قال عنّا: أخوين
نظرَ الدهرُ إلينا نظرة ً … سَوَّت الشرَّ فكانت نظرتين
يا أبي والموتُ كأسٌ مرة ٌ … لا تذوقُ النفسُ منها مرتين
كيف كانت ساعة ٌ قضيتها … كلُّ شيءٍ قبلَها أَو بعدُ هَيْن؟
أَشرِبْتَ الموت فيها جُرعة ً … أَم شرِبْتَ الموتَ فيها جُرعتين؟
لا تَخَفْ بعدَكَ حُزناً أَو بُكاً … جمدتْ منِّي ومنكَ اليومَ عين
أنت قد علمتني تركَ الأسى … كلُّ زَيْنٍ مُنتهاه الموتُ شَيْن
ليت شعري: هل لنا أن نتلقي … مَرّة ً، أَم ذا افتراقُ المَلَوَين؟
وإذا متُّ وأُودعتُ الثرى … أَنلقَى حُفرة ً أَم حُفْرتين؟