ذلك الشعب الذي آتاه نصرا – جبران خليل جبران
ذلك الشعب الذي آتاه نصرا … هو بالسبة من نيرون أحرى
أي شيء كان نيرون الذي … عبدوه كان فظ الطبع غرا
بارز الصدغين رهلا بادنا … ليس بالأتلع يمشي مسبطرا
خائب الهمة خرار الحشا … إن يواقف لحظه باللحظ فرا
قزمة هم نصبوه عاليا … وجثوا بين يديه فاشمخرا
ضخموه وأطالوا فيثه … فترامى يملأ الآفاق فجرا
منحوه من قواهم ما به … صار طاغوتا عليهم أو أضرا
يكثر الإعصار هدما وردى … إن يكاثره وما أوهاه صدر
مد في الآفاق ظلا جائلا … هو ظل الموت أو أعدى وأضرى
إن رسا في موضع طم الأسى … أو مضى فاظنن بسيف الله بترا
متلفا للزرع والضرع معا … تاركا في إثره المعمور قفرا
إنما يبطش ذو الأمر إذا … لم يخف بطش الأولى ولوه أمرا
ساس نيرون برفق قومه … مستهلا عهده بالخير دثرا
مستشيرا فيهم الحذر إلى … أن بلا القوم فما راجع حذرا
ضاربا فيهم بكف مرة … باسطا كفيه بالإحسان مرا
لان حتى وجد اللين بهم … فجفا ثم عتا ثم اقمطرا
لبس الحلم لهم حتى إذا … آنس الحلم بهم منه تعرى
وانتحى يرهقهم خترا فما … عاقل في معقل يأمن خترا
بادئا تجربة البأس بمن … هو من أهله في الأدنين إصرا
لم يشفعهم لديه أنهم … أعلق الناس به قربى وصهرا
مستبيحا بعدهم كل امرئ … رابه سما وإحراقا ونحرا
من موالين وندمان لقوا … حتفهم حيث رجوا سيبا مبرا
وأولي علم على تأديبه … أنفقوا من علمهم ما جل ذخرا
حذروه شر ما يعقبه … بغيه إن لم يخف لوما وشرا
فأباحوا خطلا أنفسهم … وأولي الألباب أعيانا وغثرا
ظن في الجمهور أعداء لهم … ملئت أكبادهم ضغنا ودغرا
كاظمين الغيظ خافين إلى … أن يلوا في وجهه العدوان جهرا
ناكسي الهامات حتى يشهدوا … في لقاء القادرين الصعر صعرا
من غيابات الدجى أبصارهم … تطلب النور وتأبى أن تقرا
فئة شكس غلاة طالما … ناوأوا الحكم وهاجوا القوم نأرا
قتلوا تركين في دعواهم … أنه يسرف في السلطان حكرا
وأثابوا بالردى قيصر إذ … أخضع الدنيا لهم برا وبحرا
أصحيح أن روما حفظت … من جلال العزة القعساء غبرا
لم يخل ذلك نيرون ولم … ير من يأمنها يأمن وترا
عد عن ذلك واذكر قتله … أمه كم عظة في طي ذكرى
هي أردت عمه من أجله … وأرته كيف أخذ الملك قهرا
ورعته حاكما حتى إذا … شجرت بينهما العلاب شجرا
ورأى الشركة في سلطانه … وهنا والنصح تقييدا وحجرا
سخر الفلك لها تغرقها … فنجت والغور لا يدرك سبرا
فتباكى خدعة لكنها … لم يفتها ما وراء العين عبرى
فاصطفى من جندها مؤتمنا … خائنا يأخذها بالسيف غدرا
ولفضل في نهاها استشعرت … غيلة الوغد إذ البارق ذرا
لحظة فيها استبانت هول ما … إثمها أمس عليها اليوم جرا
غير أن الخوف منها لم يقع … موقعا يزري إذا ما الخوف أزرى
فأشارت قبل لم تحتشم … ولها وقفتها تيها وجبرا
ثم قالت دونك البطن الذي … نكب الدنيا به فابقره بقرا
هكذا الباغي على جبن به … بدأ البغي وبالفتك تضرى
يختل الناس فرادى فإذا … أجمعوا رأيا أدار الطعن نثرا
من يجده ممكنا أصمى ومن … لم يجده ممكنا منى فأغرى
مستطيلا ما اشتهى في بغيه … قائلا ما استطاع للرأفة قصرا
غال من غال بهم في شبهة … بل كفى أن خال حتى اقتص وغرا
وادعى الوزر وقاضى وقضى … غيبة إن كان أو لم يك وزرا
وبنو روما سجود حوله … ركع راضون ما ساء وسرا
لو علوا كالمد في بحر طغى … ثم ظنوه لعاد المد جزرا
كلما كفكفه ناهي النهى … عن أذاهم جرأوه فتجرى
ليس بالتارك فيهم جهده … لسوى أعوانه جاها وأزرا
أفسد القوم على أنفسهم … فإذا الأخفر من كان الأبرا
وإذا الأوفى خثون وإذا … حسن النكر قبيلا ساء نكرا
وإذا كل ولاء عامر … تحته مفسدة تحفر حفرا
ظل في الإرهاب حتى خف من … قذفهم في روعة ما كان وقرا
فانثنى منشرحا صدرا كأن … لم يجيء من شنع التنكيل صدرا
كل يوم يمنع الجيش حبى … وعطايا جمة تبذر بذرا
كل يوم يصل الشعب بما … ليس يبقي لاستياء فيه حبرا
كل يوم ينتدي حيث انتدى … للملاهي قومه صبحا وعصرا
فأحبوه لهذا ونسوا … ما بهم حل من الأرزاء غزرا
وجرى في كل شوط آمنا … وتملى العيش بعد الخوف طثرا
أخطر الأمن فليقولا على … باله والهزر قد يعقب هزر
أفتدري من فليقولا وما … سامه الرومان مستخذين بهرا
أفتدري أي حكم جائر … ذلك الطاغي على الرومان أجرى
أفتدري ما الذي كلفهم … ذات يوم ضحكا منهم وسخرا
يوم أمسى غير مبق بينهم … من أسود الخدر من يعصم خدرا
وثنى الأعيان في ندوتهم … طوع كفيه أأحلى أم أمرا
فنوى أفعولة لم ينوها … غيره من قبل مهما يك جسرا
لو أسرت نفس أشقى ظالم … بعضها اخجله ما قد أسرا
ذاك أن ولى علهم قنصلا … فرسا من خيله أصهب ترا
مرن الأرساغ ممراحا يرى … قارحا أو فوقه إن هو فرا
كان في الخيل أبوه معزيا … بينا نسبته والأم حجرا
رحب شدق لاهزا ماضغه … لا حب المتن استوى خلقا وأسرا
مشرف العنق ضليعا هيكلا … لم يبالغ فيه من سماه غمرا
طالما استعصى على ملجمه … في الصبا ثم على الأيام قرا
وبدا فيه وقار بعد أن … كان خفاقا إذا حمل وقرا
ريض للطاغي وأوهى عزمه … كبر السن فما يسطع كبرا
وغدا في ظن مولاه به … دمثا لا خوف من أن يحذئرا
دانيا حاجبه من وقبه … لينا جانبه عسرا ويسرا
مذعنا يصلح للإقرار في … مجلس الأشياخ محمودا مقرا
فلهذا اختاره صنوا لهم … وهو لا يحسبه أحدث كفرا
لم يكد يأمر حتى استبقت … زمر تهتف في الندوة بشرى
بشروا الأعيان بالند الذي … صدر الأمر به قدس أمرا
ثم وافى بالجواد المجتبى … ساسه قد ألبسوا خزا وشذرا
فدنا مستأنسا لكنه … موشك للريب أن يبعد نفرا
ناشقا ما حوله ملتفتا … فعل من أوجس كيدا فاقشعرا
ساكنا آنا وآنا نزقا … يفحص الموقف أو يهمر همرا
مرخيا عذرا طوالا كرمت … عند من لا يرسلون العذر عذرا
بينما يسبل أذنيه وقد … جحظت عيناه إذ يرنو مصرا
أوشكوا أن يحزوا ثم بدا … فإذا ما ظن من حزن تسرى
وانبرى من فوره أرغبهم … في رضى الغاشم يسترضي الطمرا
زاعما مولاه يبلو ودهم … بالذي أهدى ولا يضمر حقرا
وأتم الأنس داعون دعوا … للجواد الشيخ أجلل بك مهرا
لم يكن مهرا وكم من فرية … بذلت في خطبة للود مهرا
يا له طرفا بنى الحظ له … في بني أعوج عزا وسبطرى
درت الجلسة يف حضرته … فأدار الذيل في جنبيه خطرا
وله سامعتا من لم يثق … وله باصرتا من قل مكرا
إن أطالوا جد رفسا وإذا … أقصروا حمحم تأنيبا وزجرا
وإذا حرك رأسا أكبروا … وحيه لله ذاك الوحي درا
كان إمرأ شأنهم من جهلهم … وقديما كان شأن الجهل إمرا
عظموا طرفا وقبلا عبدت … أمم من جهلها ثورا وهرا
ذاك إبداع فليقولا فهل … دونه نيرون في الإبداع حجرا
سنرى إن هو لم يضر به … ما الذي يفعله القوم ليضرى
لا سقاك الغيث يا جهل فكم … سقيت في كأسك الأقوام مرا
أنت أغريت بظلم كل ذي … صولة غير مبال أن يعرا
وسعت أم القرى ذاك الذي … عقها حمدا كما لو كان برا
إن يكلمه الأعزون بها … فامتداحا أن يكلمهم فهجرا
فمضى في غيه واسترسلت … في مجال الذل تحبيذا وشكرا
ألهته أوهمته أنه … مالك الضر منيع أن يضرا
فإذا أوضع في تفظيعه … كلما أزرى بها شدته أزرا
كل يوم يدعي فنا فما … هو إلا أن نوى حتى أقرا
قال بي حسن فقالت وبه … يا فقيد الشبه فقت الناس طرا
فترقى قال إن مطرب … فأجابت وتعيد الصحو سكرا
فتمادى قال في التصوير لي … غرر قالت وتؤتي الرسم عمرا
فتغالى قال في التمثيل لا … شبه لي قالت ويحيي الميت نشرا
فتناهى قال إن شاعر … فأجابت إنما تنظم درا
فعرته جنة زانت له … خطة أدهى على الملك وأزرى
أزمع الرحلة في موكبه … جاشما شقتها بحرا وبرا
موليا شطر أثينا وجهه … إنه كان لأهل الفن شطرا
يتوخى قولها في حقه … إنه أصبح في التمثيل نحرا
وكفى من شهدت يوما له … شهرة توليه في الأقطار زخرا
فمضى في أي حشد حاشد … يدع الرحب من الساحات ضجرا
بعد أن أوفد رسلا كلفوا … في أثينا دعوة الناس وسفرا
يبتغي إشهادها في محفل … حسنه الطالع في الظلماء بدرا
مسمعا سمارها مزهره … عارضا تمثيله بطنا وظهرا
إي وآيات أثينا كان من … شأنها أن تمنح الأخطار دهرا
ذاك إذ كانت هي الدار وإذا … كانت الدنيا لتلك الدار قطرا
إنما أمست أثينا عملا … داخلا في دولة الرومان قسرا
فإذا ما ألفيت شاربة … بعض أمن بالثناء الزور يشرى
أو بدت ساخرة من نفسها … تطريء الجهل وما كان ليطرا
فكذاك الرق يدني من على … ويعيد الأمة الحرة عرى
ذاك تأويل الحفاوات التي … وهبتها القيصر الممتاح فخرا
فقضى مأربه ثم انثنى … برضى من فعل الفعلة بكرا
ليس آفلون لو ناظره … بمصيب منه غير اللمح شزرا
عاد باليمن وكل مضمر … حزنا لكنه يظهر سرا
فتلقاه بروما أهلها … كتلقي فاتح فتحا أغرا
قيصر الأكبر لم يحفل له … هكذا إذ دوخ الدنيا وكرا
نصبوا الأبواب إكبارا له … وأحاطوا ركبه بالجيش مجرا
وأقاموا زينة جنح الدجى … جعلت روما سماوات وزهرا
زينة ما شهد الخلق لها … قبل ذاك العهد شبها يتحرى
خلبته واستفزت روعه … فطوى الليل وقد أضمر أمرا
ليجدن بها معجزة … ترهب الأعقاب ما النجم ازمهرا
جامعا فيها الأفانين التي … يدعي إتقانها علما وخبرا
مخرجا أشجى سماع للورى … من لهيب يسدر الأبصار سدرا
مغربا حسنا وفي مذهبه … أن خير الحسن ما يفعم شرا
فتقوم الزينة الكبرى بما … بعده لا تذكر الزينات صغرا
فاز نيرون بأقصى ما اشتهى … محرقا روما ليستبدع فكرا
بعد أن حصل في تمثيله … ما به أصبح في التمثيل شهرا
شبت النار بها ليلا وقد … رقدت أمتها وسنى وسكرى
شعلة من كل صوب نهضت … ومشت دفا وإحضارا وعبرا
زحفت رابية مضرمة … تلتقيها في عناق الوهج أخرى
جمعت أقسام روما كلها … في جحيم تصهر الأجسام صهرا
فالمباني تتهاوى والجذى … تترامى والدمى تنقض جمرا
والأناسي حيارى ذهل … غامروا هولا وساء الهول غمرا
خوض في الوقد إلا نفرا … تخذوا الأشلاء فوق الوقد جسرا
والضواري انطلقت لا تأتلي … ما التقت عضا وتمزيقا وكسرا
هجمت للفتك ثم انهزمت … فزعات ساريات كل مسرى
كثر اللحم شواء حولها … وتأبت بعد جهد الصوم فطرا
تتهادى مهراقا دمها … وبها ضعضعة النازف خمرا
دفق التبر ضياء ودما … مستفيض اللج ياقوتا وتبرا
كان بالأمس كمرآة صفت … ربما كدرها الطائر نقرا
تلتقي فيها صروح عبست … قاتمات وربى تبسم خضرا
فإذا مرت نسيمات بها … حطمتها قددا ربدا وغرا
حبذا عندئذ منظرها … منظرا والتبر في الأنهار نهرا
إذ ترى الأمواج فيه أعرضت … مالئات صفحات الماء سحرا
كجوار سابحات خرد … سابقات في تباريها وحسرى
لاهيات مغربات ضحكا … آمنات لمحات الريب طهرا
أرسل الحسن على أكتافها … من ضفير الزبد المذهب شعرا
كل غيداء رداح ناوحت … بيد عبرا وبالأخمص عبرا
هي نور الروض أو أزهى حلى … وهي غصن الرند أو أرشق خصرا
تارة تبدو وطورا لا ترى … وتناهي الظرف إذ ترفض ذرا
أين تلك العين هل حالت إلى … جنة وارتد برد الماء سعرا
أصبحت سود سعال ساقها … سائق يوسعها حثا ونهرا
في مسوح من قتار يجتلى … أرجوان تحتها من حيث تفرى
عاد صافي اللون منها رنقا … وضحوك الوجه منها مكفهرا
شرقت لماتها أصبغة … ورنت أعينها النجلاء خزرا
صار غسلينا حميما غسلها … كاسبا من حر ما جاور حرا
أي بنات الماء غبن بين … أن ترى سودا وما أبهاك شقرا
ذاك ما أحدثه البغي وهل … أدرك الصفو فلم يردده كدرا
قام سور حول روما ساطع … ناشرا أعلامه كمتا وصفرا
تحت جو ملئت أرجاؤه … من تلظيها قتاما مسبكرا
ينظر الغاشم في أقسامها … حذقه رسما وموسيقى وشعرا