حورية النهر – بدر شاكر السياب
نفوس معذبه هائمة … تخبط في الظلمة القاتمة
أجد لها الليل أحزانها … و تذكار أيامها الباسمة
فسارت تفتش عن حبها … و تنشد لذاتها الدائمة
و أسرى بها تحت جنح الظلام … زوارق في اللجة الغائمة
إذا ما تلوث على الشاطئين … من النهر أمواجه اللاطمه
و أرسى على مائه زورق … تؤرجحه النسمة الحالمة
أطلت على النهر حورية … فأغوته بالنظرة الساهمة
فأغواره و هي أوطانها … بواك على فقدها نادمة
و أمواجه و هي أترابها … جئت تحت أقدامها لاثمه
أحورية النهر غضي العيون … و كوني بملاحة راحمه
تسيرين في زورق من ظلال … فتدفعه النسمة الناعمة
و مجدافك اخترته من ضي … اء النجوم على اللجة القاتمة
و أطربت النهر و الضفتين … أغان و قيثارة ناغمة
لقد حق أن تسحر الكائنات … وتستل آهاتها الجاثمة
فأوتارها شعرك العسجدي … و أنت الموقعة الباسمة
رأى النهر مصرع ملاحه … بعينيك أيتها الظالمة
رآك فهيأ مجدافه … و أسلم زورقه للظلام
يثير إذا سار عزم الميا … ه فتطلق عن جانبيه السهام
طغى الموج و ارتد يطوي الظلال … فلم يبق للعين إلا القتام
فيا زورقا من ظلال تلاشى … بحورية ليس ترعى الذمام
أخلفت ملاحنا وحده … و للموج في الشاطئين احتدام
و حورية النهر ما خلفت … سوى أغنيات تثير الغرام
يجاري اختلاجاتها زورق … و موج و قلب حواه الهيام
و نهر تمازج أمواهه … و يحملها رغوة إذ تنام
و نجم يعشى الدجى ضوءه … كنبع على ثغره العشب نام
و يقتاف آثارها زورق … و ملاحه الشارد المستهام
يطالعه طيف حورية … من الموج يختال في الابتسام
فمن كل صوب سرى خالها … هناك و إن سار ألفى الظلام
أوهما يرى لا فذا صوتها … ينتهي فتعيد المياه الكلام
و لاحت له أعين مشفقات … محدقة من وراء الغمام
تنادي به ظللتك الخطوب … و قادتك نحو الردى و الحمام
و لكن أذنيه لم تسمعا … حديث السماوات حيث السلام
جرى وهو ليس له غاية … سوى أن يجدف حتى الصباح
و يقفو على الماء ضوء النجوم … و يصرع أشجانه بالنواح
لقد حطم الليل مجدافه … و هيض الشراع بعصف الرياح
وقد أطفأ الموج مصباحه … فصاح و لم يجد ذاك الصياح
تبرمت يا ليل بالبائسين … فزل و اترك الصبح يأسو الجراح
و نادى وقد مد كلتا يديه … لقد حان يا أرض عنك الرواح
فيا شاطئا كان مأوى الغريب … إذا مل طول السرى فاسترح
وداعا وداع الشقي الحزين … سيسر إلى الموت بعد الكفاح
و يا زمج الماء خدن السفين … سمير الشراع الطروب الصداح
كلانا يحن إلى تربه … فطر لي فإني مهيض الجناح
و يا أنجم الليل يا عودي … إذا القلب في الليل بالداء طاح
إذا ما خبا نوركن الوضيء … أسى و تألق نجم الصباح
فحدثنه عن فتى في الدجى … طواه العباب وحب الملاح
رأى ويح عينيه حورية … فجن بها ساعة ثم راح
فقد يخبر النجم عنه الرعاة … فيبكون حزنا و تبكي البطاح
و مات الشقي الحزين فعادت … تكفنه بالشراع الرياح