تداعيات أمام باب القصيدة – عدنان الصائغ

…. إلى الناقد يوسف نمر ذياب

.

.

.

بعيداً…

عن الشعراءِ..

اتخذتُ لحُزني رُكْناً قصيّاً..

بمقهى القصيدةْ

بعيداً عن الندواتِ، وثرثرةِ الصَحْبِ..

حاورتُ قلبي:

ألا أَيّها المتسكّعُ في المكتباتِ

وفي الطُرُقاتِ..

وحيداً

كثيرَ التَلَفُّتِ والاشتهاءِ..

كثيرَ القراءةِ،

تحتَ ضياءِ المصابيحِ، والبَقِّ…

في حارةٍ، لمْ تُصَافِحْ جريدةْ

وتجمعُ في “دَخْلك” الخشبيِّ، النقودَ…

لكي تشتري “البؤساءَ”،

و”شرحَ الحماسة”،

و”المتنبِّي”…

وغيرُكَ يلهو بـ “خرجيةِ” العيدِ،

منتفخَ الجيبِ حلوى

وها أنتَ منتفخُ القلبِ، شكوى…

تراقبُ طفلاً كسيحاً..

وتُعْطِي لشَحَّاذَةٍ كُلَّ ما في يديكَ..

وحين تمرُّ أمامَ الأراجيحِ..

يغريكَ صاحبُها بالصعودِ مع الصبيةِ العابثين،

ستبني لوحدِكَ.. أُرجُوحَةً من خيالٍ..

وترحلُ نحو ضفافِ النجومِ البعيدةْ

وها أنتَ تَكْبَرُ بين السطورِ..

وبين الطفولة،ِ والكتبِ المدرسيةِ..

بين الأزِقَّةِ، والحُلْمِ..

تكثرُ كُتْبُكَ..

يكثرُ صَحْبُكَ..

تَطْرُقُ بابَكَ

– ذاتَ صباحٍ بهيٍّ –

فتاةٌ، بعُمرِ المحبَّةِ..

كي تستعيرَ كتاباً..

فتمنحها قلبكَ القرويَّ، كتاباً..

يضجُّ بشِعرِ المروجِ

وصدحِ البلابلِ

والأُغنياتِ الشريدةْ

ـ أأعجبَ آنستي.. يا تُرَى؟

فتضحكُ في خجلٍ انثويٍّ لذيذٍ..

ـ أنا……؟

وتدري بأنّكَ كنتَ تجوعُ الليالي..

لكي تشتري في الصباحِ.. كتاباً

وأنّكَ كنتَ تراسلُ كلَّ الجرائدِ..

علّكَ تُبْصِرُ اسمَكَ هذا المشتَّتَ..

يحتلُّ يوماً مكاناً صغيراً بإحدى الجرائدْ

وتَبْقى تُعَانِدْ

حروفَ المطابعِ.. والحظَّ..

تَبْقى ولا شيءَ غير شماتةِ هذي اللعينة، هذي القصيدةِ، وهي تَمُدُّ اللسانَ بسُخريَّةٍ…

فتمزّقُها – حَنِقاً – ثمَّ تلعنُ كلَّ حروفِ المطابعِ..

تلعنُ حظّكَ..

تلعنُ أنّكَ – يا للضياعِ – قد اخترتَ هذا الطريقَ المشاكسَ، هذا الطريقَ الطويلَ المريرَ إلى غابةِ الكلماتِ.. وحين يمرُّ بكَ الصَحْبُ، منطلقين.. إلى اللعبِ، سوف يرونكَ – من فتحةِ البابِ – منشغلاً بالقراءةِ، حدَّ الجنون

فيصرخُ أَحَدُهُمْ هازئاً:

ما الذي سوفَ تجنيهِ

غيرَ المجاعاتِ..

يا فيلسوفَ الزمان..؟

بعيداً..

عن الشعراءِ..

اتخذتُ لقلبي رُكْناً نديّاً..

بمقهى القصيدة

وكنتُ وراءَ الزجاجِ المضبَّبِ أُبْصِرُهم، واحداً، واحداً: بالرباطِ الأنيقِ، ومحفظةِ الجلدِ، واللغةِ المنتقاةِ..

وما كنتُ أملكُ غيرَ قميصي الوحيدِ، ويُتْمي.. وما كنتُ أملكُ غيرَ ترابِ البلادِ، يُسافِرُ بين الضلوعِ، وبين القصيدةِ.. بين الجفونِ، وبين حنينِ الطفولةِ للجسرِ والأمسياتِ.. وما كنتُ أفتحُ نافذتي لسوى الرازقيِّ، وسِرْبِ النوارسِ… ما كنتُ غيرَ المتيّمِ بالشِع

أُصَافِحُهم، واحداً، واحداً.. الأناملُ ناعمةٌ، رُبَّما خدشتهم خشونةُ كفّي..

وأُبْصِرُ أشعارَهم ترتدي بنطلوناً من الجينـز، طُرّزَ بالبِنْيَويَّةِ.. ترطنُ بالمفرداتِ الغريبةِ، وهي تمرُّ بحارتِنا… فأسألُ: هل يشتري البسطاءُ القواميسَ.. كي يفهموا ما تقولُ القصيدةُ؟ يا وطني..

وإذ يصعدُ الشعراءُ لأبراجِهم، متخمين يلوكون عصرَ الحضارةِ.. و”اليوت”.. أنسلُّ للنهرِ وحدي

أذيبُ همومَ القصيدةِ في الموجِ..

تطفو على السطحِ رغوةُ قلبي وأشربها..

أَيّها المتعبون..

اشربوا نخبَ قلبي..

ثم أمضي مع الريحِ…

حيث الشوارعُ مغسولةٌ برَذَاذِ الصباحِ، ورائحةِ الناسِ والياسمينِ، وسِرْبِ الجميلاتِ

حيث المصانعُ، والشجرُ المتطاولُ

حيث البلادُ تفتّحُ في كلِّ قلبٍ:

سماءً من اللازوردِ..

ونهرَ أمانٍ..

ومرجَ قصائد.

19/3/1983