بور سعيد – بدر شاكر السياب

يا حاصد النار من أشلاء قتلانا … منك الضحايا و إن كانوا ضحايانا

كم من ردى في حياة و انخذال ردى … في ميته و انتصار جاء خذلانا

إنّ العيون التي طفّأت أنجمها … عجلنّ بالشمس أن تختار دنيانا

و امتد كالنور في أعماق تربتنا … عرس لنا من دم و اخضلّ موتانا

فازّلزلي يا بقايا كاد أولنا … يبقي عليها من الأصنام لولانا

نحن الذين اقتلعنا من أسافلها … لاة و عزّى و أعليناه أنسانا

حييت بورت سعيد من مسيل دم … لولا افتداء لما يغليه ماهانا

عاناك في الليّل داج من جحافلها … نورا من الله أعماها و نيرانا

ما عاد ليل قد استخفى بأقنعة … من أوجه الناس لولا أنت عريانا

ليل تعيد الكعوف السود آنية … فيها وفكا لموتاها و صوّانا

من بعض ما فيه من ظلماء ما عرفت … باسم لها فهي قبل اسم إذا كانا

حييت من قلعة ما آد كاهلها … عبء السماوات الا خفّ ايمانا

أمسكتها أن يميد الظالمون بها … دينا لنا وانتصارات وعنوانا

يا مرفأ النور ما أرجعت وادعة … من غير زاد ولا آويت قرصانا

ولا تلفظت من مرساك معتديا … الا مدمى ذليل الهام خزيانا

جمعت من شط صور لمح أحرفها … واخترت من بابل واحتزت مروانا

والنيل ساق العذارى من عرائسه … للخصب في موكب الفادين قربانا

فالويل لو كان للعادين ما قدروا … لانهدّ من حاضر ماض فأخزانا

فلا ابتنى هرما بان ولالبست … تيجانها في انتظار الروح موتانا

ولا تفجّر في ذي قار فتيتها … ولا تنفست الصحراء قرآنا

حييت موتى وأحياء وأبنية … مستشهدات أو استعصين أركانا

والنار والباذرون النار كم زرعوا … من كل ثكلى لعزرائيل بستانا

من كلّ وجه لطفل فيه زنبقة … تدمى وتلتم فيه الريح غربانا

الجوّ مما يلزّون الحديد به … قاع الجحيم التظى وانصبّ طوفانا

سقّاك من كل غيم فيه أحرزه … جوف الثرى واشتهته النار أزمانا

كأس الرّصاص التى غنى بتوأمها … سقراط وابتل منها جرح وهرانا

هاويك أعلى من الطاغوت فانتصبي … ماذلّ غير الصفا للنار و الخشب

حيّيت من قلعة شقّ الفضاء بها … أس لها في صدور الفتية العرب

الطين فيها دم منا و جندلها … من عزمة و الحديد الصاد من غضب

أنت السماوات و الأرض التي خلقت … في عشرة تحسب الأيام بالحقب

و الصخر فيك استمد الروح إذ لمست … عقم الجمادات فيه إصبع اللّهب

في كل أنقاض دار من صفاه يد … جبّارة تصفح العادين كالشعب

ما انهد إلا و أعلى في ضمائرنا … سدّا من الثار أعيى حيلة النوب

و الماء حتى زلال الماء فيك مدى … من فضة الله توهي جحفل الذهب

ما بل للجحفل المأجور غلته … حتى جبى قدر ماء من دم سرب

أملى على كل شيء فيك جوهرة … حلف لجيشين ذي قربى و ذي أرب

إن الحديد الذي صنت الحياة به … غير الحديد الذي وافاك بالعطب

و الخير في بندقيات قذائفها … حتف المغيرين و الميلاد في قضب

لكنه الشر في خبز حقائبه … عون لأعدائك الجوعى و في قرب

ليت المسيح الذي داجى بشرعته … من باع مثواه راء فيك عن كثب

خرس نواقيسك الثكلى و دامية … فيك الأناجيل و الموتى بلا صلب

و الحابس الماء عن جرحاك حملها … عبء الصليبيين من حمّى و من خشب

و استنطق الأم ثكلى أين جيرتها … من فتية لاصطياد العسكر اللجب

فالتم في مقلتيها و هي تنظره … كل المخاضات و التسهيد و النصب

كأنما استودعتها كل والدة … آجال كل الذراري طيلة الحقب

فاختارت الموت معلوكا مراضعها … معروكة في رحى تترى من الرّكب

تفدي بما يستبيح الجند من دمها … و النار أعراض كل الخرد العرب

أبناء جنكيز في روح و إن بعدوا … في نسبة رب قربى دون منتسب

شر اللصوص إذا عف التتار فما … عفوا عن الريش و الأمال و اللّعب

فلتنفخ الصّور في أفريقيا أمم … بالأمس قد أنزلوها أسفل الرّتب

و لتسمعنّ الزنوج البيض صيحتها : … إنا إلى الله أدنى منك في نسب

حييت فالوحش أوهى فيك مخلبه … يا غابة النار قد أثمرت بالغلب

غاص المغيرون عن واديك و انحسروا … فالأرض تدمى بقتلاها و تزدهر

و ازدارك الموت لا ملسا ملامحه … بيضا كما تهلك الأنعام و الشجر

حاشاك فالموت توري فيك حدّته … طعم الدم الحيّ ما يرقى به البشر

أخفاه عنك التزام فيك و اشتباك يد … في مثلها فهو حيث اجتازه البصر

حتى إذا ارتد و استبشعت صورته … أدركت أي انتصار ذلك الظّفر

أدركت أن الضحايا رد كاثرها … فيك الأقل المضحي أنها كثر

من سدد النار في أيديك يوردها … كيد المغيرين منه الظنّ و النظر

و احتاز في قليه الأحقاب يزرعها … في جانب منه و استبسالك الثمر

و استنفر الشرق حتى كاد ميته … يسعى أهذا صلاح الدين أم عمر

هذا الذي حدثتنا عنه أنفسنا … في كل دهياء نبلوها و ننتظر

هذا الذي كل عن سحق لبذرته … بالخيل و الذابلات الروم و التتر

يا أمة تصنع الأقدار من دمها … لا تيأسي أن سيف الدولة القدر

أعطى لكل انتصار فيك جدته … فاخضل واخضلت الآيات و السّور

في مسجد أم مشاء بأمته … فيه المصلين حتى كبّر الحجر

و استشرف الساح ناء عنه يحمله … ما بين جنبيه رام فيه منتصر

عين لسيناء ترقى كل رابية … فيها و عين النيل تنحدر

أو تنفض الأفق حتى ضاء من لهب … حملاقها فهي ممّا راء تستعر

جاؤوك جاء الصليبيون قاصفة … تنقض في أثر أخرى فاللظى مطر

في كل فانوس موتى من قذائفها … نور له اختضّت الأبعاد و العصر

فالشرق عار مدى عينيه منبسط … كالراحة الدور و الأكواخ و الحفر

يكاد يبصر ما أبقاه مكتدح … في جبهة و اغتذى من مقلة سهر

إيماضة البرق ألا أنها حقب … تطوى و مستقبل يبنى و يدّخر

المجد لله و الإنسان أن يدا … تحيي و قلبا يداوي منها أثر

يا قلعة النور تدمي كل نافذة … فيها و تلظى و لا تستلم الحجر

أحسست بالذل أن يلقاك دون دمي … شعري و أني بما ضحّيت أنتصر

لكنها باقة أسعى أليك بها … حمراء يخضل فيها من دمي زهر