الله يحكمُ في المداينِ والقُرى – أحمد شوقي

الله يحكمُ في المداينِ والقُرى … يا مِيتَ غَمْرَ خُذِي القضاءَ كما جرى

ما جَلَّ خَطْبٌ ثم قِيسَ بغيْرِه … إلا وهوَّنه القياسُ وصغَّرا

فسَلي عمورَة َ أَو سدُون تأَسِّياً … أَو مرْتنيقَ غداة وورِيَتِ الثرى

مُدنٌ لقِينَ من القضاءِ ونارِه … شَرراً بجَنب نَصيبِها مُستَصْغَرا

هذي طلولكِ أنفساً وحجارة ً … هل كنتِ رُكناً من جَهَنَّمَ مُسْعَرا؟

قد جئتُ أبكيها وآخذُ عبرة ً … فوقفتُ معتبراً بها مستعبرا

أجدُ الحياة َ حياة َ دهرٍ ساعة ً … وأرى النعيمَ نعيمَ عمرٍ مقصرا

وأَعُدُّ من حَزْمِ الأُمورِ وعزمها … للنفس أَن ترضَى ، وأَلاَّ تَضْجَرا

ما زلتُ أسمعُ بالشَّقاءِ رواية ً … حتى رأيتُ بكِ الشَّقاءَ مصوَّرا

فعل الزمانُ بشمْلِ أَهلِك فِعْلَهُ … ببني أميَّة َ ، أو قرابة ِ جعفرا

بالأمسِ قد سكنوا الديارَ ، فأصبحوا … لا يُنظَرون، ولا مساكنُهم تُرَى

فإذا لقِيت لقيت حيّاً بائساً … وإذا رأيت رأيت مَيْتاً مُنْكرا

والأُمهاتُ بغير صبرٍ: هذه … تبكي الصغيرَ ، وتلك تبكي الأصغرا‍

من كلِّ مُودِعَة ِ الطُّلولِ دموعَها … من أَجْلِ طفلٍ في الطلولِ استأْخرا

كانت تؤمِّل أن تطولَ حياته … واليومَ تسألُ أن يعودَ فيقبرا

طلعتْ عليكِ النارُ شؤمها … فمحتكِ آساساً ، وغيرتِ الذرا

مَلَكَتْ جهاتِكَ ليلة ً ونهارَها … حمراءَ يبدو الموتُ منها أحمرا

لا ترهبُ الوفانَ في طغيانها … لو قابَلَتْه، ولا تهابُ الأَبْحُرا

لو أن نيرون الجمادَ فؤاده … يُدْعَى ليَنْظُرَها لعاف المنظرا

أوأنه ابتلى َ الخليلُ بمثلها … ـ أَستغفِرُ الرحمنَ ـ ولَّى مُدْبِرا

أو أن سيلاً عاصمٌ من شرها … عصمَ الديارَ من المامع مال جرى

أَمْسَى بها كلُّ البيوتِ مُبَوَّباً … ومطنَّباً ، ومسيَّجاً ، ومسوَّرا

أسرتهمو ، وتملَّكتْ طرقاتهم … مَنْ فرَّ لم يجدِ الطريقَ مُيَسَّرا

خفَّتْ عليهم يومَ ذلك مورداً … وأَضلَّهُمْ قدَرٌ، فضَلُّوا المَصْدَرا

حيثُ التفتَّ ترى الطريقَ كأنها … ساحاتُ حاتمِ غبَّ نيرانِ القرى

وترى الدعائمَ في السوادِ كهيكلٍ … خمدَتْ به نارُ المجوسِ، وأَقْفَرا

وتَشَمُّ رائحة َ الرُّفاتِ كريهة ً … وتشمُّ منها الثاكلاتُ العَنْبَرا

كثرتْ عليها الطيرُ في حوماتها … يا طيرُ، «كلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرا»

هل تأمنين طوارقَ الأحداثِ أن … تغشى عليكِ الوكرَ في سنة ِ الكرى

والناسُ مِنْ داني القُرى وبعيدِها … تأْتي لتمشِيَ في الطُّلولِ وتَخْبُرا

يتساءلون عن الحريقِ وهوله … وأرى الفرائسَ بالتساؤلِ أجدرا

يا رَبِّ، قد خَمَدَتْ، وليس سواكَ مَنْ … يُطفِي القلوبَ المُشْعَلاتِ تَحسُّرا

فتحوا اكتتاباً للإغانة فاكتتبْ … بالصبر فهوَ بمالِهم لا يُشترى

إن لم تكن للبائسين فمن لهم؟ … أَو لم تكن للاجئين فمَنْ ترى ؟

فتولَّ جَمْعاً في اليَبَاب مُشتَّتاً … وارحم رميما في التراب مبعثرا

فعلتَ بمصرَ النارُ ما لم تأتهِ … آياتكَ السبعُ القديمة ُ في الورى

أوَ ما تراها في البلاد كقاهرٍ … في كلِّ ناحية يُسيِّر عَسْكرا؟

فادفعْ قضاءَك، أَو فصيِّرْ نارَه … برداً، وخذْ باللأُّطفِ فيما قدِّرا

مُدُّوا الأَكفَّ سَخِيَّة ً، واستغفِري … يا أُمَّة ً قد آن أَن تَستغفرا

أولى بعهطفِ الموسرين وبرِّهم … مَنْ كان مِثلَهُمُ فأَصبَح مُعْسِرا

يا أيُّها السُّجناءُ في أموالهم … أأمنتموا الأيامَ أن تتغيَّرا؟

لا يملكُ الإنسانُ من أحواله … ما تملك الأَقدارُ، مهما قَدَّرا

لا يُبْطِرنَّكَ من حرير مَوْطِىء ٌ … فلرُبَّ ماشٍ في الحريرِ تَعثَّرَا

وإذا الزمانُ تنكرتْ أحداثه … لأخيكَ، فاذكره عسى أن تذكرا