إذا ما امتطيت الفلك مقتحم البحر – ابن معصوم المدني

إذا ما امتطيت الفلك مقتحم البحر … ووليت ظهري الهند منشرح الصدر

فما لمليك الهند إن ضاق صدره … علي يدٌ تقضي بنهيٍ ولا أمر

ألم يُصْغِ للأعداءِ سَمعاً وقد غدت … عقاربهم نحوي بكيدهم تسري

فأوْتَر قوسَ الظُّلم لي وهو ساخِطٌ … وسدَّد لي سَهمَ التغطرُسِ والكبرِ

وسدَّ عليَّ الطُّرْقَ من كلِّ جانبٍ … وهم بما ضاقت به ساحة الصبر

إلى أن أراد الله إنفاذ أمره … على الرغم منه في مشيئته أمري

فرد عليه سهمه نحو نحره … وقلَّد بالنَّعماءِ من فضله نَحري

وأركبني فلك النجاة فأصبحت … على ثبَج الدَّأماءِ سابحة ً تجري

فأمسيت من تلك المخاوف آمناً … وعادت أموري بعد عسرٍ إلى يسر

وكم كاشِحٍ قد راشَ لي سِهمَ كَيدِه … هناك فأضحى لا يَريشُ ولا يَبْري

وما زال صُنعُ الله، ما زالَ واثقاً … به عبده ينجيه من حيث لا يدري

كأني بفلكي حين مدت جناحها … وطارت مطارَ النِّسر حَلَّق عن وكر

أسفت على المرسى بشاطء جدة ٍ … فجددت الأفراح لي طلعة البر

وهب نسيم القرب من نحو مكة … ولاح سَنى البيتِ المحرَّم والحِجْرِ

وسارت ركابي لا تمل من السرى … إلى موطن التقوى ومنتجع البر

إلى الكعبة البيت الحرام الذي علا … على كلِّ عالٍ من بناءٍ ومن قَصْرِ

فطفت به سبعاً وقبلت ركنه … وأقبلت نحو الحجر آوي إلى حجر

وقد ساغ لي من ماء زمزم شربة ٌ … نقعتُ بها بعدَ الصَّدى غُلَّة الصَّدرِ

هنالك ألفيت المسرة والهنا … وفزتُ بما أمَّلتُ في سالِف الدَّهرِ

وقمتُ بفرض الحجِّ طوعاً لمن قَضى … على الناس حج البيت مغتنم الأجر

وسرت إلى تلك المشاعر راجياً … من الله غُفرانَ المآثم والوِزْرِ

وجئتُ مِنى ً والقلبُ قد فاز بالمُنى … وما راعني بالخيف خوفٌ من النفر

وباكرتُ رميي للجِمار وإنَّما … رَميتُ بها قلب التباعُدِ بالجَمْرِ

أقمنا ثلاثاً ليتها الدهر كله … إلى أن نفرنا من منى ً رابع العشر

فأبت إلى البيت العتيق مودعاً … له ناوياً عودي إليه مدى العمر

ووجهت وجهي نحو طيبة قاصداً … إلى خير مَقصودٍ من البرِّ والبَحرِ

إلى السيد البر الذي فاض بره … فوافيتُ من بحرٍ أسيرُ إلى برِّ

إلى خِيرَة الله الذي شهِدَ الورى … له أنه المختار في عالم الذر

فقبَّلتُ من مثواهُ أعتابَه التي … أنافت على هام السماكين والنسر

وعفّرتُ وجهي في ثَراهُ لوجههِ … وطابَ لي التعفيرُ إذْ جئتُ عن عُفْرِ

فقلت لقلبي قد برئت من الجوى … وقلت لنفسي قد نجوت من العسر

وقلت لعيني شاهدي نور حضرة ٍ … أضاءت به الأنوار في عالم الأمر

أتدرينَ ما هذا المقامُ الذي سَما … على قِممِ الأفلاك أمْ أنتِ لم تَدري

مقام النبي المصطفى خير من وفى … محمَّدٍ المحمود في مُنزَلِ الذِّكرِ

رسول الهدى بحر الندى منبع الجدا … مبيدِ العِدى مُروي الصَّدى كاشِف الضُرِّ

هو المجتبى المختار من آل هاشمٍ … فيالك من فرع زكيٍ ومن نجر

به حازت العليا لؤي بن غالبٍ … وفاز به سَهْما كَنانة والنَّضْر

قضى الله أن لا يجمع الفضل غيره … فكان إليه مُنتهى الفضلِ والفَخرِ

وأرسله الرحمن للخلق رحمة ً … فأنقذهم بالنور من ظلمة الكفر

وأودعه العلام أسرار علمه … فكان عليها نعمَ مُستودَع السِّرِّ

وأسرى به في ليلة ٍ لسمائه … فعاد وجَيْبُ اللَّيل ما شُقَّ عن فَجرِ

وأوحى إليه الذكرَ بالحقِّ ناطِقاً … بما قد جرى في علمه وبما يجري

فأنزلَه في ليلة ِ القَدر جُملَة ً … بعلمٍ وما أدراك ما ليلة ُ القَدرِ

ولقنه إياه بعد منجماً … نُجوماً تُضيءُ الأفَق كالأنجُم الزُّهرِ

مفصَّل آياتٍ حَوَت كلَّ حِكمة ٍ … ومحكم أحكامٍ تُجَلُّ عن الحَصْرِ

وأنهضه بالسيف للحيف ما حياً … وأيده بالفتح منه وبالنصر

فضاءت به شمس الهداية وانجلت … عن الدين والدنيا دجى الغي في بدر

له خلقٌ لولا مس الصخر لاغتدى … أرقَّ من الخنساءِ تبكي على صَخْرِ

وجودٌ لو أن البحر أعطي معينه … جرى ماؤه عذباً يمد بلا جزر

إذا عبَّس الدَّهرُ الضَّنينُ لبائسٍ … تلقاه منه بالطلاقة والبشر

وإن ضَنَّ بالغيث السحابُ تهلَّلت … سحائب عشرٌ من أنامله العشر

ففاضت على العافين كف نواله … فكم كفَّ من عُسرٍ وكم فَكَّ من أسْرِ

وكم للنبي الهاشمي عوارفٌ … يضيق نطاق الحمد عنهن والشكر

إليك رسول الله أصبحت خائضاً … بحاراً يغيض الصبر في لجها الغمر

على ما براني من ضنى ً صحَّ برؤه … وليس سوى رحماك من رائدٍ يبري

فأنعم سريعاً بالشفاء لمسقمٍ … تقلبه الأسقام بطناً إلى ظهر

وخذ بنجاتي يا فديتك عاجلاً … من الضرِّ والبَلوى ومن خطر البَحرِ

عليك صلاة ُ الله ما اخصرَّت الرُّبى … وما ست غصون الروض في حللٍ خضر

وآلك أرباب الطهارة والتقى … وصَحبِكَ أصحابِ النَّزاهة والطُّهرِ