أيتها الغربة وداعا – محمد القيسي

1

كان صديقي خالد

ممتلئا بالحب

كان رقيقا وعنيفا كالنسمة والإعصار

كان معي في هذا البلد يكابد ..

غربته ،

مرتقبا سيل النار

مسكونا بالفعل الحيّ الصامت

وكان يعانق في الصحراء

واحته المنفيّة خلف جدار باهت

ويحدّثني إذ ألقاه

عن فقدان المعنى والتيه

عن تلك الأيام الصفراء

عن موت الإنسان الضائع ،

خلف قناع التمويه

عن غضب سوف يجيء

يكنس فينا هذا الفقر المعتم ويضيء

غرفا في النفس رماديّة

كان يواجهني بالبسمة

محتجّا ..

إذ أسمعه بعض الشعر الأسيان

يا قيسيّ

دعنا من هذي السوداويّة

الحزن خميرتنا يا خالد

والحزن سلاح لا يغمد

نغسل أعماق الروح به ،

نسمو ، نتجدّد

حين يرافقنا في اليقظة والنوم

يتنفّس معنا ، ويشاركنا الخبز

لا نقدر أن نتجاهل هذي النعمة

يا خالد

2

كان جريئا في زمن الصمت

لا يخفض هام الكلمة

لا يرسلها زلفى لأمير أو حاكم

كان يجلّ الصدق

يحلم بمدائن تحتضن الإنسان

لا تورده الموت

لكنّ صديقي خالد

طولب أن يصمت

طولب أن يكسر قلمه

طولب أن يخنق ألمه

طولب أن يرضى بالأمر الواقع

3

أسألكم ..

من يرضى أن يسقط طوعا ؟

من يقدر أن يمنع أمّا ،

معدمة ، جوعى

من أن تحمل سيفا ؟

وإذا لزم الأمر

أن تسرق ثمن حليب الطفل الجائع ؟

طوبى لأبي ذر

4

لم يسرق خالد ، لم يحمل سيفا

لم يقتل يوما نملة

كان صديقا للناس ، محبّا للفقراء

لكنّ الخوف على أمن الدولة

يلزمهم أن لا تبقى الكلمة مسموعة

أن لا يبقى خالد حرّا

5

فوجىء خالد ذات صباح

بدخول الشرطيّ عليه

يحمل بين يديه

كومة أصفاد

في اليوم التالي

نشرت بعض الصحف اليوميّة

أمر الإبعاد

6

” ملاحظة ..

في ذلك اليوم ، بكت طفلتان صغيرتان ، لأن

أباهما تأخر عن موعده ، ولم يعد للبيت ،

كانت تنتظران أن يحمل لهم حبّا ، وأمنا ،

وحلوى ..

ربما كانت جائعتين ..”

7

لم أر خالد ذاك اليوم

لكّني كنت أرى جبهته ،

سارية في الريح ، منارة

لم يوهنها الإبحار

كان الإصرار

مرسوما في عينيه علامة

كان يردّد أنّ الصبح ،

وإن طال سيأتي

واحتضن وسامه

ومضى ..

يبحث عن أرض ،

تطعمه خبزا وكرامة ..

8

لا أذكر كم مرّ من الأعوام

حين تقابلنا أول مرّة

في باحة فندق

وسط دمشق

أذكر كان عناقا ،

عبر الصمت مليئا بالصدق

حيث أعاد إلى سمعي الكلمات الحرّة

كان كلانا ،

يبحث في رحلته عن شاطىء

عن قطعة أرض غالية ،

يسند جبهته المتعبة عليها ..

تطفىء ظمأ الأيام

عن شجر يمنحه الظلّ

عن بيت دافيء

يؤويه إذا جاء الليل

9

وفتحنا كلّ شبابيك الجرح

10

كان تراب الوطن العربي

ما زال طريّا أخضر

والجثث المقتولة في سيناء

وغزة والجزلان

ينهشها الطير ولم تدفن

وتحدّثنا في ذاك اليوم ،

عن الآمال البرّاقة

وعن السفر الثاني ،

وزنود الفتيان الغلاّبة

إذ تلج بجنح الليل

أبواب فلسطين بلا تصريح

مثل الريح

تحمل شارات الصبح ..

11

كنّا نعبر في الطرقات معا

أحزنني وجه دمشق

بردى كان بلا صوت

لاحظت لأول مرّة

أنّ ملابس خالد كانت كاكيّة

لكن فيما بعد عرفت

أنّ صديقي من زمن ،

يلتزم بتدريبات يوميّة

فسرحت ببصري في الصمت

وتحدّث خالد ، فاجأني بسؤاله

ما حال الغربة والأصحاب ؟

جالت في أعماقي الكلمات المرّة

.. .. …. …………

………………..

لكنّي أطرقت

12

يا أيام الغربة أعطيني إسمي

أعطيني أوراقي ويدي

أعطيني قلمي

آن لنا أن نفترق الآن

آن لهذا القلب المحكوم عليه

أن يرتاد الأبعاد

ركضا خلف خلاص موهوم

آن له أن يستقبل ،

فعل المرتقب المحتوم

بعد سنّي التجوال

أزهر يا غربة في أرضي الليمون

وامتلأ ” المارس ” بسنابل معطاءة

وابتهج الفلاحون

أمّا الفقراء فقد مدّوا أيديهم ،

واحتضنوا قمر الثورة

يا غربة هاتي كفيّك

أودعك بها كلماتي المرّة

ورنين الزمن الجاحد

إني أرتحل الآن

فيّاضا بالفرح إلى خالد ..