ألا لا تلمهُ اليومَ أن يتألما – مصطفى صادق الرافعي

ألا لا تلمهُ اليومَ أن يتألما … فإن عيونَ الحي قد ذرفتْ دما

رأى من صروفِ الدهرِ في الناسِ ما أرى … وعلمه الدهر الأسى فتعلما

ولم يكُ ممن يملكُ الهمُ قلبَهُ … ولكنْ أتاهُ الهم من جانبِ الحمى

هنالكَ حيٌّ كلما عنَّ ذكرهُمْ … تقسمَ من أحشائهِ ما تقسما

يمثلهم في قلبهِ كلُّ لاعجٍ … وترمي بهِ ذكراهم كل مرتمى

فمن مرسلٍ عينيهِ يبكي وقد جرتْ … مدامعهُ بينَ الغضا لتضرما

ومن واجدٍ طاوٍ على حسراتهِ … ولو انها في شامخٍ لتهدما

ومن ذي غنىً يشكو إلى الله أمرهُ … وقد باتَ محتاجاً إلى الناسِ معدما

ومن ذاتِ خدرٍ لم تجدْ غيرَ كفِها … نقاباً ولم تترك لها النارُ محتمى

جرتْ في مآقيها الدموعُ غفيفةً … وقد كشفتْ للناسِ كفاً ومعصما

وباتتْ وباتَ القومُ عنها بمعزلٍ … مناجيةً رباً أبرَّ وأرحما

وعذراء زفتها المنونُ فلم تجدْ … سوى القبر من صهرٍ أعفَ وأكرما

فحطَّتْ أكفَّ الموتِ عنها لثامها … وهيهاتَ بعدَ الموتِ أن تتلثما

ومن والدٍ برٍّ وأمٍّ رحيمةٍ … تنوحُ على من غالهُ الموتُ منهما

فجيعانِ حتى لا عزاءَ سوى الرِّضا … وكانَ قضاءُ اللهِ من قبلُ مبرما

فإن رأيا طفلاً تجشمتِ البكا … على طفلها بعدَ الرضا وتجشما

وإن هجعا أرضاهما الوهمُ في الكرى … وساءَهما بعد الكرى ما توهما

ووالدةٌ ثكلى وزوجٌ تأيمتْ … ومرضعةٌ حسرى وطفلٌ تيتما

وقومٌ وراءَ الليلِ لا يطرقُ الكرى … عيونهمُ إن باتتِ الناسُ نوّما

فمن مطرقٍ يروي الثرى بدموعهِ … كأنَّ الثرى يشكو إليهِ من الظما

ومن طامحٍ للأفقِ حتى كأنهُ … على العدمِ يستجدي من الأفقِ أنجما

حنانيكَ يا رباهُ كم باتَ سيدٌ … يمدُّ يديهِ يسألُ الناسَ مطعما

وكم من أشمِّ الأنفِ أرغمَ أنفهُ … وما كانَ يوماً يطرقُ الرأسَ مرغما

إذا همَّ بالتسآلِ أمسكَ بعدها … حياءً فلم يفتح بمسألةٍ فما

وكم من فتىً غلتْ يداهُ عن العلا … وقد كانَ مجدولَ الذراعينِ ضيغما

أتتهمم وراءَ النارِ كلُّ فجيعةٍ … تسوقُ لهم في ميت غمرٍ جهنما

إذا عصفتْ شدَّت إلى الناسِ شدّةً … فلم تبقَ بينَ البائسينَ منعما

وإن زفرتْ شابَ الوليدُ لهولها … وكانَ خليقاً أن يشيبَ ويهرما

يحومُ عليها الموتُ من كلِّ جانبٍ … وقد نطرَ الأرواح أقبلتَ حوّما

فلو كانَ يستسقى الغمامُ بمثلها … لأغرقنا من صيّبِ الغيثِ ما هما

سلامٌ على تلكَ الديارِ وقد غدتْ … طلولاً تناجيها الدموعُ وأرسُما

فكم طللٍ قد باتَ يرثي لصحبهِ … ولو أنهُ استطاع الكلامَ تكلما

وكم منزلٍ قد باتَ قبراً لأهلهِ … وباتوا بهِ جلداً رفاةً وأعظما

سلامٌ على الباكينَ مما دهاهم … على حينِ لا تجدي دموعُ ولا دما

سلامٌ عليهم إن في مصرَ عصبةٌ … سراعاً إلى دفعِ الردى أين خيّما

فكم فرجوا عن كلِّ نفسٍ حزينةٍ … فما غبسَ المحزونُ حتى تبسما