أبدى لِداعي الفوزِ وجْهَ مُنيبِ – لسان الدين الخطيب

أبدى لِداعي الفوزِ وجْهَ مُنيبِ … وأفاق من عذلٍ ومن تأنيبِ

كلِفَ الجنانِ إذا جَرى ذِكرُ الحِمى … والبانِ حنَّ له حنينَ النِّيبِ

والنَّفسُ لا تنفكُّ تكلفُ بالهوى … والشيْبُ يلحظُها بعينِ رَقيب

رحَل الصِّبا فطرحْتُ في أعقابِهِ … ما كان من غزْلٍ ومن تشبيبِ

أترى التَّغزُّل بعد أن رحل الصِّبا … شأني الغداة َ أو النَّسيب نسيبي

أنَّى لمثلي بالهوى من بعدِ ما … للوخطِ في الفَودين أي دبيبِ

لبِسَ البياض وحلَّ ذروة َ منبرٍ … منِّي ووالي الوعْظَ فِعل خطيب

قد كان يستُرُني ظلامُ شَبيبتي … واليومَ يفضَحُني صباح مشيبي

وإذا الجديدانِ استجدَّا أبليا … من لِبسة ِ الأعمار كلَّ قشيبِ

سلني عن الدَّهرِ الخؤونِ وأهلِهِ … تسَلِ المهلَّب عن حروبِ شبيبِ

متقلَّبُ الحالات فاخبرْ تقلِهِ … مهما أعدت يداً إلى تقليبِ

فكل الأمورَ إذا اعترتْكَ لربِّها … ما ضاق لطفُ الربِّ عن مربوبِ

قد يخبأُ المحبوبِ في مكروهِها … من يخبأُ المكروهَ في المحبوب

واصبر على مضضِ اللَّيالي إنها … كحوامِلِ ستلدنَ كلَّ عجيب

واقنعْ بحظٍّ لم تنَلْهُ بحيلة ٍ … ما كلُّ رامٍ سهمَهُ بمُصيب

يقع الحريصُ على الرَّدى ولكُم غَدا … تركُ التَّسبُّب أنفعُ التَّسبيبِ

من رامَ نيْلَ الشيءِ قبل أوانِهِ … رام انتقالَ يلمْلَمِ وعسيبِ

فإذا جعلتَ الصَّبر مفزع مُعضلٍ … عاجلْتَ علَّتهُ بطب طبيبِ

وإذا استعنْتَ على الزَّمان بفارسٍ … لبَّى نداءك منهُ خيرُ مجيب

بخليفة ِ الله في كفِّه … غيثٌ يروِّض ساح كلَّ جديبِ

المنتقى من طينة ِ المجدِ الذي … ما كان يوماً صرفُهُ بِمشوب

يرمي الصِّعاب بسعدِهِ فيقودها … ذُللاً على حَسَبِ الهوى المرغوب

ويرى الحقائِقَ من وراء حِجابِها … لا فرق بين شهادة ٍ ومَغيب

من آل عبدِ الحق حيث توشحت … شُعبُ العلا وربَتْ بأيِّ كثيب

أسُدُ الشَّرى سرج الوَرى فمقامُهُم … لله بين محارِبِ وحُروب

إمَّا دعا الداعي وثوَّبَ صارِخاً … ثابوا وأمُّوا حومة َ التثويب

شُهبٌ ثواقب والسماءُ عجاجة ٌ … تأثيرها قد صحَّ بالتجريب

ما شئتَ في آفاقها من رامحٍ … يبدو وكفٍّ بالنجيع خضيب

عجبت سيوفهُمْ لشدَّة بأسهِمْ … فتبسَّمْت والجوُّ في تقطيب

نُظموا بلبّاتِ العلا واستوسقوا … كالرُّمح أنبوباً على أنبوب

تروي العواليَ في المعالي عنهُم … أثر النَّدى المولودَ والمكسوب

عن كل موثوقٍ به إسنادُهُ … بالقطع أو بالوضعِ غيرُ مَعيب

فأبو عِنانٍ عن عليِّى غضَّة ً … للنقل عن عثمانَ عن يعقوب

جاءوا كما اتَّسق الحسابُ أصالة ً … وغدا فذلك ذلك المكتوبِ

متجسِّدا من جوهرِ النُّور الذي … لم ترمَ يوماً شمسُهُ بغُروب

متألقاً من مطلعِ الحق الذي … هو نورُ أبصار وسرُّ قُلوب

قُل للزَّمان وقد تبسَّم ضاحكاً … من بعد طول تجهُّم وقطوب

هي دعوة الحق التي أوضاعُها … جمعت من الآثارِ كلًّ غريب

هي دولة ُ العدلِ الذي شمِلَ الورى … فالشاة ُ لا تخشى اعتداءَ الذيبِ

لو أن كسرى الفُرْس أدرك فارساً … ألقى إليه بتاجِهِ المعصوب

لمَّا حللتُ بأرضه متملئاً … ما شئتُ من بِرِّ ومن ترحيبِ

شملَ الرضا فكأنَّ كل أقاحَة … ترمي بثغرٍ للسلامِ شنيب

وأتيتُ في بحر القِرى أمَّ القُرى … حتى حططتُ بمرفأ التّقريب

فرأيتُ أمرَ الله من ظلِّ التُّقى … والعدل حتى سُرادِق مضروبِ

ورأيتُ سيفَ الله مطرورَ الشَّبا … يمضي القضاءُ بحدِّه المرهوبِ

وشهدتُ نور الله ليسَ بآفل … والدِّين والدنيا علَى ترتيبِ

وورَدْتُ بحرَ العلم يقذِفُ موجُهُ … للناس من دررِ الهدى بضروب

لله من شيم كأزهارِ الرُّبا … غبَّ انثيال العارِضِ المسكوبِ

وجمالِ مرأى في رداءِ مهابة … كالسيفِ مصقولِ الفرَنْدِ مهيب

يا جنة ً فارقتُ من غرُفاتها … دار القرارِ بما اقتضتْهُ ذنوبي

أسفي على ما ضاع من حظِّي بها … لا تنقضي ترحاتُهُ ونحيبي

إن أشرقَتْ شمسٌ شرقت بعبرتي … وتفيضُ في وقت الغروبِ غروبي

حتى لقد علمت ساجعة ُ الضُّحى … شجوي وجانِحَة ُ الأصيل شُحوبي

وشهادَة ُ الإخلاص توجبُ رِحْلتي … لنعيمها من غيْر مسَّ لغوب

يا ناصرَ الحق العريبِ وأهلُهُ … أنضاءُ مسغبة ٍ وفلُّ خطوب

حقِّقْ ظنون بنيه فيك فإنهُمْ … يتعلَّلون بوعدِكَ المرقوبِ

ضاقَتْ مذاهب نصرهِمْ فتعلَّقوا … بجناب عزِّ من عُلاك رحيبِ

ودَجا ظلامُ الكفرِ في آفاقِهم … أو ليس صُبحكَ منهمُ بقريب

فانظر بعينِ العزِّ من ثُغر غدا … حذر العِدا يرنوا بطرفِ مُريب

نادتْكَ أندلسٌ ومجدك ضامنٌ … ألا تخيب لديكَ في مطلوبِ

غَصب العدوُّ بلادها وحسامُك … الماضي الشَّبا مسترجعُ المغصوب

أرِها السَّوابح في المجاز حقيقة ً … من كلِّ قعدة ِ مجربٍ وجنيب

يتأوَّدُ الأسلُ المثقف فوقَها … وتجيبَ صاهلة ٌ رُغاءَ نجيبِ

والنَّصرُ يضحِكَ كل مبْسَم غرَّة … والفتح معقودٌ بكلِّ سَبيب

والروم فارم بكلِّ رجم ثاقبٍ … يُذكي بأربعِها شُواظ لهيب

بذوابل السُّلب التي تركَتْ بني … زيَّان بين مجدَّلٍ وسَليب

وأضِفْ إلى لام الوَغا ألفَ القَنا … تظهَرْ لديْكَ علامة ُ التَّغليب

إن كنْتَ تعجمُ بالعزائِم عودَها … عودُ الصَّليب اليوْمَ غيرُ صليبِ

ولكَ الكتائبُ كالخمائِل أطلعَتْ … زهرَ الأسنَّة فوق كلِّ قضيبِ

فمُرنَّح العِطفين لا من نشوة ٍ … ومورَّد الخدين غيرُ مُريب

يبدو سدادُ الرَّأي في راياتِها … وأموُرها تجري على تجريب

وترى الطُّيور عصائباً من فوقها … لحلول يوم في الضّلالِ عسيبِ

هذَّبْتَها بالعرض يذكر يومُهُ … عرض الوَرى للموعِدِ المكتوب

وهي الكتائبُ إن تُنوسي عرضُها … كانت مدوَّنة ً بلا تهذيبِ

حتى إذا فرضَ الجلادُ جدالَهُ … ورأيت ريحَ النَّصر ذاتَ هُبوب

قدَّمْت سالبة العدوِّ وبعدها … أخرى لعزِّ النَّصر ذات وُجوب

وإذا توسط فضل سيفك عندها … جزأي قياسك فزت بالمطلوب

وتبرأ الشيطانُ لمَّا أن علا … حزبُ الهدى من حزبِهِ المغلوب

الأرضُ إرثٌ والمطامعُ جمَّة ٌ … كل يهشُّ إلى التماس نصيبِ

وخلائفَ التَّقوى هم ورَّاثها … فإليكها بالحظ والتَّعصيبِ

لكأنَّني بك قد تركْتَ ربوعَها … قفراً بكر الغزوِ والتَّعقيبِ

وأقمتَ فيها مأتماً لكنه … عرسٌ لنسر في الفلاة َ وذيبِ

وتركتَ مُفْلتها بقلبٍ واجبٍ … رهباً وخدٍّ بالأسى مندوب

تبكي نوادِبُها وينقلن الخُطا … من شلو طاغية ٍ لشلو صليب

جعل الإلهُ البيت منك مثابة ً … للعاكفينَ وأنت خيرُ مُثيب

فإذا ذُكرْتَ كأن هبَّات الصَّبا … فضَّت بمدرجها لطيمة َ طيبِ

لولا ارتباطُ الكونِ بالمعنى الذي … قصُرَ الحِجا عن سرِّه المحجوب

قلنا لعالمِكَ الذي شرَّفْتَهُ … حسدا البسيطُ مزية َ التَّركيبِ

ولأجلِ قُطرِكَ شمسُها ونجومها … عدلت عن التَّشريقِ للتَّغريبِ

تبدو بمطلعِ أفقِها فضيَّة ً … وتغيب عندكَ وهي في تذهيبِ

مولاي أشواقي إليك تهُزُّني … والنارُ تفضَعُ عرفَ عودِ الطَّيبِ

بِحُلى علاك أطلْتُها وأطبْتُها … ولكم مُطيل وهو غير مُطيب

طالبْتُ أفكاري بفرض يديها … فوفَتْ بشرط الفوْزِ والترتيبِ

متنبىء أنا في حُلى تلك العُلا … لكنَّ شِعري فيك شِعرُ حَبيب

والطَّبعُ فحلٌ والقريحَة ُ حرَّة ٌ … فاقبلهُ بين نجيبة ِ ونجيب

لكنَّني سهَّلتها وأدلتُها … من كلِّ وحشي بكلِّ ربيبِ

هابَتْ مقامَكَ فاطبيت صِعابَها … حتى غَدَتْ ذُللاً على التدريب

إن كنت قد قاربْتُ في تعديلِها … لا بدَّ في التعديل من تقْريب

عُذرى لتَقْصري وعجزي ناسِخٌ … ويحلُّ منك العفوُّ عن تَثريب

من لم يَدِنْ لله فيك لقُربِهِ … هو من جنابِ الله غيرُ قَريب

والله ما أخفيتُ حُبَّك خيفة ً … إلا وأنفاسي عليَّ تشي بي