و عاد في كفن – محمود درويش

يحكون في بلادنا

يحكون في شجن

عن صاحبي الذي مضى

و عاد في كفن

كان اسمه.. .

لا تذكروا اسمه

خلوه في قلوبنا…

لا تدعوا الكلمة

تضيع في الهواء، كالرماد…

خلوه جرحا راعفا… لا يعرف الضماد

طريقه إليه. ..

أخاف يا أحبتي… أخاف يا أيتام …

أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء

أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء

أخاف أن تنام في قلوبنا

جراح نا …

أخاف أن تنام

2

العمر… عمر برعم لا يذكر المطر…

لم يبك تحت شرفة القمر

لم يوقف الساعات بالسهر…

و ما تداعت عند حائط يداه …

و لم تسافر خلف خيط شهوة …عيناه

و لم يقبل حلوة…

لم يعرف الغزل

غير أغاني مطرب ضيعه الأمل

و لم يقل : لحلوة الله

إلا مرتين

لت تلتفت إليه … ما أعطته إلا طرف عين

كان الفتى صغيرا …

فغاب عن طريقها

و لم يفكر بالهوى كثيرا …

3

يحكون في بلادنا

يحكون في شجن

عن صاحبي الذي مضى

و عاد في كفن

ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب

لأمه : الوداع

ما قال للأحباب… للأصحاب :

موعدنا غدا

و لم يضع رسالة …كعادة المسافرين

تقول إني عائد… و تسكت الظنون

و لم يخط كلمة…

تضيء ليل أمه التي…

تخاطب السماء و الأشياء ،

تقول : يا وسادة السرير

يا حقيبة الثياب

يا ليل يا نجوم يا إله يا سحاب :

أما رأيتم شاردا… عيناه نجمتان ؟

يداه سلتان من ريحان

و صدره و سادة النجوم و القمر

و شعره أرجوحة للريح و الزهر

أما رأيتم شاردا

مسافرا لا يحسن السفر

راح بلا زوادة ، من يطعم الفتى

إن جاع في طريقه ؟

من يرحم الغريب ؟

قلبي عليه من غوائل الدروب

قلبي عليك يا فتى… يا ولداه

قولوا لها ، يا ليل يا نجوم

يا دروب يا سحاب

قولوا لها : لن تحملي الجواب

فالجرح فوق الدمع …فوق الحزن و العذاب لن تحملي… لن تصبري كثيرا

لأنه …

لأنه مات ، و لم يزل صغيرا

4

يا أمه

لا تقلعي الدموع من جذورها

للدمع يا والدتي جذور ،

تخاطب المساء كل يوم…

تقول : يا قافلة المساء

من أين تعبرين ؟

غضت دروب الموت… حين سدها المسافرون

سدت دروب الحزن… لو وقفت لحظتين

لحظتين

لتمسحي الجبين و العينين

و تحملي من دمعنا تذكار

لمن قضوا من قبلنا … أحبابنا المهاجرين

يا أمه

لا تقلعي الدموع من جذورها

خلي ببئر القلب دمعتين

فقد يموت في غد أبوه… أو أخوه

أو صديقه أنا

خلي لنا …

للميتين في غد لو دمعتين… دمعتين

5

يحكون في بلادنا عن صاحبي الكثيرا

حرائق الرصاص في وجناته

وصدره… ووجهه…

لا تشرحوا الأمور

أنا رأيتا جرحه

حدقّت في أبعاده كثيرا…

” قلبي على أطفالنا “

و كل أم تحضن السريرا

يا أصدقاء الراحل البعيد

لا تسألوا : متى يعود

لا تسألوا كثيرا

بل اسألوا : متى يستيقظ الرجال