بكت بدمٍ من بعد عيسى وبندر – عبدالغفار الأخرس

بكت بدمٍ من بعد عيسى وبندر … عيونُ ذوي الحاجات من كلّ معشر

أهرقت الدمع الغرير عليهما … لواعج حزن في الجوانح مضمر

فلم تبق منه زفرة ما تأججت … ولا عبرة من مقلة لم تحدّر

أقول لركب راح يرتاد منزلاً … لربع على نهر المجرّة مقفر

سرى ضارباً في الأرض ما بين منجد … يخدّ أخاديد الفلاة ومغور

أقيموا عل قبر ثوى بندر … صدور المطايا ما ثوى قبر بندر

ولا تسأموا من واكف الدمع وافرجوا … من الحزن مبيض الدموع بأحمر

ولا تندبوا غير المكارم والعلى … لعالٍ كما صدر القناة مشهر

بكيت فأكثرت البكاء وحقّ لي … بكائي على وفد من العز مكثر

وإنّي لمعذور إذا ما بكيته … بأكثر من قطر الغمام وأغزر

ولي عبرة لم ترقت عند ادّكاره … كما لي فيه عبرة المتفكر

وهيهات أنْ أسلوه يوماً وإنّني … خلا منه يوماً خاطري وتذكري

حسامٌ صقيل المتن أُغمِدَ في الثرى … ووارى ترابُ الأرض طلعة نيّر

وقد كان لم يحجب سناه بحاجب … ولم تستتر أضواؤه بمستّر

فوا أسفي إنْ كان يغني تأسُّفي … وما حَذَري إنْ كان يجدي تحذري

وكنت أراني في النوائب صابراً … فأعدمني صبري فأنى تصبّري

وإنّي لمقبول المعاذير في الأسى … ومن يعتذر مثلي إلى الصبر يُعذر

لقد ضقت ذرعاً بعد فقدان باسل … من الصيد مفتول الذراع غضنفر

وما سرّ نفسي بعده ما يسرّها … ولا راق ما قد راق شيء لمنظري

فيا عبراتي كلّ آن تحدّري … ويا نار أحشائي عليه تسعّري

فقد غاض بحر كلَّما مدّ راحة … إلى الوفد فاضت منه خمسة أبحر

فتسخر من ويل السحاب أكفُّه … بأبرعَ من وبل السحاب المسخّر

إلى الله خطب كل يوم يعاد لي … برزءٍ من الأرزاء يقطع إبهري

مصابٌ أُصيبَتْ فيه آل محمد … برغم العوالي من وشيج وسمهري

أصيبت بقوم ما أصيبت ولم تصب … به مضرُ الحمرا ولا آل حمير

أرتنا المنايا كيف تُصمي سهامها … وكيف تصول النائبات وتجتري

ولو أنَّه يُفدى فَدَتْهُ أماجدٌ … ترى الموت إلاّ فيه أربحَ متجر

ولو أنه يدعو الكماة لنصره … عليها أجابته بنصرٍ مؤزر

ولكنه اغتالته إذ ذاك غيلة ً … ولم تمنع عنه بجند وعسكر

خذي من تشائي بعد أخذك بندراً … من الناس من قد شئته وتخيّري

فما كان مفقود تشق جيوبها … عليه المعالي يوم مجد ومفخر

سقاك الحيا المنهلُّ يا قبر بندر … وحيّاك مهراقُ الغمام الممّطر

سألتك والأجفان يرفضّ ماؤها … عن الضيغم العادي فهل أنت مخبري

تدلّى عقيراً فيك والحتف صارم … لعمري متى يعقر به الليث يعقر

محاسنُ ذاك الوجه كيف تغيّرت … وكان على الأيام لم تتغيَّر

وكان يلاقي ضيفه متهلّلاً … بوجه صباحٍ بالمحاسن مسفر

وقد نُكّرت من بعد علمي بأنها … معارف للمعروف لم تتنكر

مضى لا مضى إلاّ إلى عفو ربه … ومسرح جنات ومورد كوثر

فهل وَدَّعَتْه المشرفيّة والقنا … وناحت عليه البيض في كل محضر

لمن ترك الخيل الجياد كأنها … عرائس ما زُفَّت لغير مظفر

صواهل يعشقن الطراد بموقف … تبيع الردى فيه الكماة وتشتري

دعونا للجدوى مراراً فلم يجب … دعاءً لنا عن عزّة وتكبّر

وكان من الداعي بمرآى ومسمعٍ … وفي منظر ما يروق ومخبر

قريب من الحسنى مجيب لمن دعا … زعيم بأخذ الفارس المتجبر

تراه سلانا بعد هذا بغيرنا … بأرغد عيشٍ أم بأكرم معشر

ألم يَدْر أنَّ المُلك أُهمل بعده … ليس سوى فهد له من مدبر

وأنَّ بني العلياء ضاقت صدورها … لفقدان ذاك السيّد المتصدر

ومن نَظَرَ الأيام معتبراً بها … رآها بعين الذاهل المتجر

تحذّرنا صرف المنون نزولها … وتنذرنا في كلّ يوم بمنذر

… شراب ولا منها ورود لمصدر

ونبكي على الدنيا على غير طائل … وما أحدٌ من أهلها بمعمَّر

نؤمّل فيها أنْ يدوم لنا بها … حياة وما دامت لكسرى وقيصر

ونطمع منها بالمحال ولم تكن … أمانيُّنا إلاّ أحاديث مفتري

وهذي هي الآجال قد قدّرت لنا … ولم يَنَل الإنسان ما لم يُقدَّر

ولا بد أن يُمشى بنا فوق أرْبَعٍ … إلى حفرة لا مشية المتبختر

ولو أننا كنّا بقصرٍ مشيّدٍ … وحصن حصين بالحديد مسوّر

وإنَّ المنايا كائناتٌ لوقتها … إذا قدّمت للمرء لم تتأخر

ولا وزرٌ مما قضى الله عاصم … ولا يتّقى منه بدرع ومغفر

على أنها الدنيا إذا ما صفا لنا … بها العيش شابت صفوَه بمكدّر

ومن ترك الدنيا رآها بعينه … قصاصة ثوب أو قلامة أظفر