بائعة الورد – إيليا أبو ماضي

من الفرنسيس قيد العين صورتها … عذراء قد ملئت أجفانها حورا

كأنّما و هبتها الشّمس صفحتها … وجها و حاكت لها أسلاكها شعرا

يد المنيّة طاحت غبّ مولدها … بأمّها ، و أبوها مات منتحرا

في قرية من قرى باريس ما صغرت … عن الفتاة و لكن همّها كبرا

و النّفس تعشق في الأهلين موطنها … و ليس تعشقه يحويهم حفرا

و تعظم الأرض في عينيك محترما … و ليس تعظم في عينيك محتقرا

فغادرتها و ما في نفسها أثر … منها و لا تركت في أهلها أثرا

إلى التي تفتن الدّنيا محاسنها … و حسن من سكنوها يفتن البشرا

إلى التي تجمع الأضداد دارتها … و يحرس الأمن في أرجائها الخطرا

إذا رآها تقيّ ظنّها ” عدنا ” … و إن رآها شقيّ ظنّها ” سقرا “

تودّ شمس الضّحى لو أنّها فلك … و الأفق لو طلعت في أوجه قمرا

و الغرب لو كان عودا في منابرها … و الشّرق لو كان في جدرانها حجرا

في كلّ قلب هوى كأنّ له … في أهلها صاحبا ، في أرضها وطرا

( باريس ) أعجوبة الدّنيا و جنّتها … وربّة الحسن مطروقا و مبتكرا

حلّت عليها فلم تنكر زخارفها … فطالما أبصرت أشباهها صورا

و لا خلائق أهليها وزيّهم … فطالما قرأت أخلاقهم سيرا

و إنّما أنكرت في الأرض وحدها … كذلك الطّير إما فارق الوكرا

يتيمة مالها أم تلوذ بها … و لا أب إن دعته نحوها حضرا

غريبة يقتفيها البؤس كيف مشت … ما عزّ في أرض ” باريس ” من افتقرا

مرّت عليها ليال و هي في شغل … عن سالف الهمّ بالهمّ الذي ظهرا

حتّى إذا عضّها ناب الطّوى نفرت … تستنزل الرّزق فيها الفرد و النّفرا

تجني اللّجين الباذلوه لها … من كفّها الرود منظوما و منتثرا

لا تتّقي الله فيه و هو في يدها … و تتّقي فيه فوق الوجنة النّظرا

تغار حتّى من الأرواح سارية … فلو تمرّ قبول أطرقت خفرا

أذالت الورد قانية و أصفره … كيما تصون الذي في خدّها نضرا

حمته عن كلّ طرف فاسق غزل … لو استطاعت حمته الوهم و الفكرا

تضاحك لا زهرا و لا لعبا … و تجحد الفقر لا كبرا و لا أشرا

فإن خلت هاجت الذكرى لواعجها … فاستنفدت طرفها الدمع الذي اذّخرا

تعلّقته فتى كالغصن قامته … حلو اللّسان أغرّ الوجه مزدهرا

وهام فيها تريه الشمس غرّتها … و الفجر مرتصفا في ثغرها دررا

إذا دنا رغبت لا يفارقها … و إن نأى أصبحت تشتاق لو ذكرا

تغالب الوجد فيه و هو مقترب … و تهجر الغمض فيه كلّما هجرا

كانت توقّى الهوى إذ لا يخامرها … فأصبحت تتوقّى في الهوى الحذرا

قد عرّضت نفسها للحبّ واهية … فنال الهوى الجبّار مقتدرا

و الحبّ كاللّص لا يدريك موعده … لكنّه قلّما ، كالسّارق ، استترا

و ليلة من ليالي الصّيف مقمرة … لا تسأم العين فيها الأنجم الزهرا

تلاقيا فشكاها الوجد فاضطربت … ثمّ استمرّ فباتت كالذي سحرا

شكا فحرّك بالشّكوى عواطفها … كما تحرّك كفّ العازف الوترا

وزاد حتّى تمنّت كلّ جارحة … لو أصبحت مسمعا أو أصبحت بصرا

ران الهيام على الصّبّين فاعتنقا … لا يملكان النّهى وردا و لا صدرا

” كان ما كان ممّا لست أذكره ” … تكفي الإشارة أهل الفطنة الخبرا

هامت به و هي لا تدري لشقوتها … بأنّها قد أحبّت أرقما ذكرا

رأته خشفا فأدنته فراء بها … شاة فأنشب فيها نابه نمرا

ما زال يؤمن فيها غير مكترث … بالعاذلين فلمّا آمنت كفرا

جنى عليها الذي تخشى ، و قاطعها … كأنّما قد جنت ما ليس مغتفرا

كانت و كان يرى في خدّها صعرا … عنه فباتت ترى في خدّه صعرا

فكلّما استعطفته ازور محتدما … و كلّما ابتسمت في وجهه كشرا

قال النّفار و ” فرجيني ” على مضض … تجرّع الأنقعين : الصّاب و الصّبرا

قالت ، و قد زارها يوما ، معرّضة … متى ، لعمرك ، يجني الغارس الثّمرا ؟

كم ذا الصّدود ، و لا ذنب جنته يدي … أرجو بك الصّفو لا أرجو بك الكدرا

تركتني لا أذوق الماء من ولهي … كما تركت جفوني لا تذوق كرى

أشفق عليّ و لا تنس وعودك لي … فإنّ ما بي لو بالصّخر لانفطرا

أطالت العتب ترجو أن يرقّ لها … فؤاده فأطال الصّمت مختصرا

و أحرجته لأنّ الهمّ أحرجها … و كلّما أحرجته راغ معتذرا

و ضاق ذرعا بما يخفى لها … إلى م ألزم فيك العيّ و الحصرا

أهواك صاحبة … أمّا اقترانك بي … فليس يخطر في بالي و لا خطرا

أهوى رضاك و لكن إن سعيت له … أغضبت نفسي و الدّيّان و البشرا

عنيت مالي من قلبين في جسدي … و ليس قلبي إلى قسمين منشطرا

تطالبني فؤادي و هو مرتهن … في كفّ غيرك ، رمت المطلب العسرا

يكفيك أنّي فيك خنت إمرأتي … و لم يخن قلبها عهدي و لا خفرا

قد كان طيشا هيامي فيك بل نزفا … و كان حبّك ضعفا بل خورا

قالت متى صرت بعلا ؟ قال من أمد … لا أحسب العمر إلاّه و إن قصرا

يا هول ما أبصرت يا هول ما سمعت … كادت تكذّب فيه السّمع و البصرا

لولا بقيّة صبر في جوانبها … طارت له نفسها من وقعة شذرا

يا للخيانة صاحت و هي هائجة … كما تهيّج ليث بابنه و ترا

الآن أيقنت أنّي كنت واهمة … و أنّ ما كلّ برق يصحب المطرا

و هبت قلبك غيري و هو ملك يدي … ما خفت شرعا و لا باليت مزدجرا

ليست شرائع هذي الأرض عادلة … كان الضّعيف و لا ينفكّ محتقرا

قد كنت أخشى يد الأقدار تصدعنا … و كان أجدر أن أخشاك لا القدرا

و صلتني مثل الشمس الأفق ناصعة … و عفتني مثل جنح اللّيل معتكرا

كما تعاف السّراة الثّوب قد بليت … خيوطه و الرّواة المورد القذرا

خفت الأقاويل بي قد نام قائلها … هلّا خشيت انتقامي و هو قد سهرا

يا سالبي عفّتي من قبل تهجرني … أردد عليّ عفافي واردد الطّهرا

هيهات ما من عفّتي عوض … لاح الرّشاد و بان الغيّ وانحسرا …

و أقبلت نحوه تغلي مراجلها … كأنّها بركان ثار و انفجرا

في صدرها النّار ، نار الحقد ، مضرمة … لكنّما مقلتاها تقذف الشّررا

و أبصر النّصل تخفيه أناملها … فراح يركض نحو الباب منذعرا

لكنّها عاجلته غير وانية … بطعنة فجّرت في صدره نهرا

فخرّ في الأرض جسما لا حراك به … لكنّ ” فرجين ” ماتت قبلما احتضرا

جنّت من الرّعب و الأحزان فانتحرت … ما حبّت الموت لكن خافت الوضرا

كانت قبيل الرّدى منسيّة فغدت … بعد الحمام حديث القوم و السّمرا

تتلو الفتاة عظات في حكايتها … كما يطالع فيها النّاشيء العبرا