هذه الشمس آذنت بالسفور – جبران خليل جبران
هذه الشمس آذنت بالسفور … بعد سبق الآيات بالتبشير
فتلقى ظهورها كل حي … بنشيد التهليل والتكبير
هي بكر الوجود لا يتملى … مجتلاها إلا شهود البكور
أرأيت الصباح يكشف عنها … كلة الليل من حيال السرير
فتهاوى ستر الدجى وتوارى … ما عليه من لؤلؤ منثور
حيث الكون حين لاحت فأحيت … كل عود لها جديد نشور
حيثما طالعت مظنة خصب … أسفر الترب عن نبات نضير
وانجلى لحظها عن الزهر الغض وعذب … الجنى وطيب العبير
وعوالي النخيل خضر الأكاليل … زواهي المرجان حول النحور
برزت في الغداة غادة وادي النيل … تخفي جمالها في الحبير
جثلة الحاجبين فاحمة الفودين … ترنو بطرف ظبي غزير
عبلة المعطفين ناهضة الثديين … يزري أديمها بالحرير
لونها ظاهر انتساب إلى الخمر … له مثل فعلها في الصدور
غض من صوتها الحياء فأحبب … بحياء فيه حياة الشعور
أقبل الحارث المبكر يرعى … حرثه والفلاح في التبكير
يلتقي من يد الصباح هدايا … ليله النائم الأمين القرير
فارق الدار منشدا لحنه الجرار … مستمهل الخطى في المسير
إن دنا الهم منه أقصاه عنه … ضحك النبت أو تناغي الطيور
وإذا ما شكا هواه أعادت … مرضع الحقل شدوه بالخرير
لقيتها الأهرام مبدية من … صلف ما تكنه في الضمير
غرها أنها قديمة عهد … بذكاء والفخر داعي الغرور
فتعالت بهامها ما استطاعت … وأطالت من ظلها المنشور
غيرها في الجبال إن تاه عجبا … غض من عجبه جوار حفير
كم هوت دونها رواس فأجلت … عن ركام في مستقر حقير
ثمل الكرنك الوقور اصطباحا … فتراءى في الماء غير وقور
ومشى النور في حناياه يغزو … ما نجا من شتائت الديجور
وتناجت أشباح آلهة ماتوا … وفانين خلدوا بالقبور
وتلاقت وجوه رب ومربوب … وتالي رقى وصالي بخور
كل ذاك التاريخ خف عن ساق … بذكراه من قديم الدهور
كشف الفجر عن جنادل سود … ضمها الغمر من بنات ثبير
تتراءى فيها ملامح بيض … حيثما صودفت مواقع نور
شف منها العباب عن فحم طاف … جلته صياقل البلور
قام أنس الوجود يؤنسها قربا … وأعزز بمثله في القصور
كل صرح علا فقصر عنه … ما عليه معرة في القصور
لم يطل فخره القديم سوى ما … أحدثت آية الزمان الأخير
أرأيت الخزان ينبو به النيل … فيطغى في الجانب المغمور
وصل الشامخين يمنى ويسرى … وثنى البحر طاغيا كالغدير
كل عين منه تصب صبيبا … كالأتي المجلجل المحدور
يرتمي ماؤها مثيرا رشاشا … من عصافات لؤلؤ مذرور
وعلى منحناه قوس سحاب … تتباهى بكل لون منير
يا عبابا يلقي بفيض نداه … في عقيق حصباؤه من سعير
حبذا الدمع من عيونك يهمي … ضاحكا بين عباسات الصخور
وعجيب هدير مجراك لكن … رب مجد ترتيله بهدير
ذاك مجد النيل العظيم فأوقع … ألف صوت وغنها بزئير
كل هذي الآيات مبعث وحي … للنظيم المجاد أو للنثير
كل هذي الآيات تؤخذ عنها … رائعات التمثيل والتصوير
كل هذي الآيات يجمع منها … نغم الحزن أو نشيد السرور
معجزات في كل آن تراها … باهرات التنويع والتغيير
إن تلك التي تراها صباحا … نبتة كالزمرد الموشور
ستراها وقد تبدت عليها … هنة شبه درة في الهجير
وترى في الأصيل ياقوتة قانئة … اللون آذنت بالظهور
ترى كلما رجعت إليها … عجبا من جديدها المنظور
جل من أبدع الجمال أفانين … أعطى الصغير حظ الكبير
يأخذ الصانع الموفق منها … بالغريب المستظرف المأثور
فهو الفن فظنة واختيارا … وابتداعا على مثال القدير