يبيتُ أخو البلوى إذا الخِلوُ غمَّضا – ابن الرومي

يبيتُ أخو البلوى إذا الخِلوُ غمَّضا … وفي قلبه جمر من الوجد لا الغضا

وأية بلوى كالبياض الذي بدا … وأيُّ فقيدٍ كالسَّواد الذي نضا

خليليّ إني نادبٌ عهد صاحبٍ … سقتْني لياليه الزُّلال المرضرضا

ولاح بديلٌ منه رذلٌ كأنما … سقتني لياليه الزُّعاف المخضخضا

بعيشكما لا تُكثرا عذل مكثرٍ … ملامة َ دهرٍ قد أغصَّ وأجرضا

شعارُ الفتى ذمُّ الزمان الذي أتى … ومن شأنه حمدُ الزمانِ الذي مضى

ولمْ لا وفي الآتي أخو العيش يُجتوَى … وفي الزمن الماضي أخو العيش يرتَضى

شبابٌ وشيبٌ ما استدار على الفتى … شبيهُهُما إلا أمر وأنقضا

نهارٌ وليلٌ أكَّد الحلْفُ أنه … إذا بنيا مبنى فشاداه قوَّضا

مضى زمنُ اللحظ الذي كان يستبي … قُلوبَ المها فاجعله دمعاً مُغيَّضا

أرى مُطرياتي عِبنَني ورفَضْنني … وذو الشَّيب أهلٌ أن يُعاب ويرفضا

وما انفكَّ موتوراً من ابيضّ رأسهُ … لقًى للهوى لا ينقُضُ الوترَ مَنْقضا

وتلقى أخا الفرع البهيمِ مظفَّراً … إذا شاء أضْنى ذاتَ دلّ وأحْرضا

كذا الجند منصورٌ بتسويد زيّه … وتلقاهُ مخذولا إذا هو بيَّضا

لشتّان ما بين الشباب وضدّه … شبابُ الفتى يُصمي إذا الشيبُ أنبضا

ينفِّرُ هذ كل صيدٍ محصَّلٍ … ويصطادُ هذا كل صيدٍ تعرّضا

تحبَّب دهري بالشباب مُلاوة ً … فلما أحلّ الشيبَ رأسي تبغّضا

كأن شباباً كان لي فسُلبتُهُ … كساني منه سالفُ الدهرِ مِعْرضا

سأثني بآلاء الشبيبة ِ باسِطاً … لساني بها حتى أحينَ فأُقبضا

وأعنى وأغرى بالخضابِ ممرّضا … شبابا مريضا حقُّه أن يمرَّضا

وأُقسم أني لا أرى من شبيبتي … سوى قاسمٍ مستخلَفا متعوَّضا

هو المرء نعماهُ شبابٌ مجدَّدٌ … وإن حثّ شيبي بالشباب فأوفضا

فتًى لم يزل مذ عدَّ عشراً وأربعاً … لكل جليلٍ مرتضًى أو مُربَّضا

لو امتحنَ الله البحارَ بجودِه … لأضحتْ وأمست من عطاياه غُيَّضا

ولو لمستْ صُمَّ الصخورِ يمينُهُ … لأضحَتْ بسلسالٍ من الماء فيَّضا

وإن راض للسلطان خشناءَ صعبة ً … فناهيكَ روّاضا به ومروّضا

متى سلَّ سيفا مارقٌ سل رأيه … فقطّعه والسيفُ للسيف يُنتضى

وأحسنُ من روضِ الربيعِ خلائقاً … إذا ذهّبَ النَّوْرَ الربيعُ وفضَّضا

إذا الناس أضحوا ظاعنين عن امرىء ٍ … نبابهم أضحوا ببابيه خُفَّضا

أقاسمُ يا من يقسمُ الجودُ ماله … أثِبْ مِدَحاً غُرَّاً وودّا مُمحضا

ألم ترني أقرضْتُك الودّ طائِعاً … ولم تر قبلي مُعسراً قطُّ أقرضا

فلم برتُ حتى قيل في ظل سخطة ٍ … وأصبحتُ للتَّرحيم نَصْباً معرَّضا

ولِمْ لَمْ تُخيّب ظن من قال خائبٌ … وهزَّ لظنّي فيك رأساً وأنغضا

إذا ما أشاعَ الناسُ أنْ قد حبسْتني … ولم أتدرّع بينهم خِلعة َ الرضا

فقد نالني بعضُ الذي رضخُوا به … فهل لك في أن تُرحضَ الشك مرحضا

وما ذاك إلا بالذي أنتَ أهلهُ … وإن لم يُطق شُكري بنعماك مَنْهضا

لعمري لقد صُوِّرتَ أبيضَ مُشرقاً … فلم لا تُريني وجه نُعماك أبيضا

أُعيذ نَدى كفَّيك من أن يعوقه … لجاجٌ ومن قيل العدى كان فانقضى

تذكَّر مديحاً لو هززتُ لبعضِه … صفاً قاسياً لاهتزَّ منه وروّضا

يُمخّضُ ودّي كل يومٍ وليلة ٍ … بذلك صدراً لا يزال ممخّضا

وألقاك مهزوزاً به وكأنما … ألاقيكَ مشحُوذاً عليَّ مُحرضا

لقد خابَ من أضحى إليك مُبغَّضاً … وأمسى إلى الأعداء فيك مُبغَّضا

أحاط به شرّان والفقرُ ثالثٌ … وفي واحدٍ ما شفّ قلباً وأرمضا

على أنني ما كنتُ عند ذوي النُّهى … مقيتاً ولا بين الكرام مُرفّضا

وقد كاد قلبي من جفائكَ ينْتزي … ولكنني خفّضتُ جأشاً مخفَّضا

ولم لا وقد جرّأتَ كلّ مُضاغنٍ … عليَّ فأضحى سيفُهُ ليَ مُنتضى

وأوهنْتَ ركني للعدي فتركْتَني … لمن رامني بالضَّيمِ عظماً مُرضَّضا

وقد كنتُ للأعداء قبلك مِقمعا … إذا الحية ُ النضناضُ يوماً تَنْضنضا

وكانوا يدبُّون الضّراء فأصبحوا … وكلُّ مبادٍ يركضُ الغيَّ مَرْكضا

فأصبحتُ مفروضاً عليّ اتقاؤهم … وما كان لو أعززت نصري ليُفرَضا

فيا ويح مولاك استغاث بمشربٍ … فأشرقَ واستشفى شفاء فأمْرضا

ولولا اعتقادي أنك الخيرُ كله … لأجمعتُ توديعاً قضى الله ما قضى

وإني وإن دارتْ عليّ دوائرٌ … لأعرضُ عمَّن صدّ عنّي وأعرَضا

وما زلتُ عزّافاً إذا الزادُ رابني … بخبثٍ وعيّافاً إذا الماءُ عَرْمضا

ومن عجبٍ أني بسطتُ بمنطقي … عليك لساناً في الإسارِ مقبّضا

ولولا رجاءٌ فيك حيٌّ لما غدتْ … عروقي ولا راحت من الخوفِ نُبَّضا

بل العجبُ الوحشيُّ خوفيك بعدما … غدوتَ غياثاً للّهيفِ مُقَيَّضا

وماليَ أخشى من عدِمتُ مَراضعي … من العيش إلا فضلَه المتبرَّضا

لأقربُ من إصعاق غيثٍ غياثُهُ … وإن رجّع الغيثُ الرُّعودَ وأومضا

ومن عجب أني اقتضيْتُك نائلاً … ووجهُك أولى أن يُعانى ويقتضَى

نظرتُ فلو ملّكتني ما ملكته … لما كنتُ من ذاك اللقاء معوّضا

ومن عجب أني أطيلُ تعتُّبي … عليك وقد أصبحتَ في الخلق مُرتَضى

ظلمتُك بالشكوى وأنت انتعشتني … وألبستني ثوبَ الحياة مفضفضا

وكم رمتُ حدّ السيف منك تسلُّطاً … عليك فلم تنقُضْ بيَ الكف مَنْقضا

حياءً وحلماً واعتلاءً عن التي … يكون الجنى منها بناناً معضّضا

وها أنا من ذنبي وعتبي تائبٌ … إلى سيدٍ كم غضَّ عني وغمّضا

سأسْلم تفويضي إليك بأسره … ومثلي إلى عدلٍ كعدلك فوّضا

وما زلتَ تسمو للعلا منك نظرة ٌ … إذا شئتَ كانت منك طرفاً مغضَّضا

ودُونَكها من شاعرٍ لك شاكرٍ … وإن حرّك الخِيمَ الكريم وحضَّضا

قديرٍ متى شاء الإبانَة نالها … وإن شاء تدقيقاً أدقّ وأغمضا

إذا سُمته هجراً رأى بك راعياً … بصيراً بما يرعى أخلَّ وأحمضا

وإن سُمته مطلاً رأى بك عارضاً … من الغيثِ ألقى بَرْكه وتمخَّضا

وما ازدادَ فضلٌ فيك بالمدح شهرة ً … بل كان مثل المسك صادفَ مِخْوَضَا

لك الذّكَرُ اللاتي هي الظُّهرُ كله … إذا ما فمٌ يوم بهنّ تمضمضا

إذا حاضت الأفواه من مدح جاهلٍ … لئيمٍ فما أضحت بمدحك حُيَّضا