يا كائناً بين أوعاثٍ وأوعارِ – ابن الرومي
يا كائناً بين أوعاثٍ وأوعارِ … من صَرْف دهرٍ على أبنائه ضارِي
لعا لعاً لك من عَثْرٍ ألمَّ بنا … في سابحٍ منك طِرفٍ غير عثّار
ما زال يسبق بالتقريب طالبَهُ … وفيه كنزان من شَدِّ وإحضار
أعجبْ به فيك من شكوٍ ولا عَجَبٌ … من ريب دهرٍ ولا من صرف مقدار
أنَّى امتُحِنت ببلوى لا يُشاكلها … ما خلتُها غير تعبيرٍ وإنذار
وكلّ عبدٍ أراد الله عصمتهُ … لم يُخْله الله من وعظٍ وإذكار
أما وبُرْئِك كلّ البرء من وصَبٍ … أضرَّ بالناس طراً كلّ إضرار
لئن منحتُك إشفاقاً تكنَّفهُ … وُدّان من بين إعلان وإسرار
إني لأنشر إشفاقي على رجلٍ … فَرْدٍ له خطر وافٍ بأخطارِ
وكنت والدهر غدار بصاحبه … لا سيما إن رآه غير غدارِ
أخشى عليك اضطرامَ الدهر لاعِللاً … تُخشَى على كل كابي الزند عُوّارِ
ما أنت والبردُ يا من كل جارحة ٍ … من جسمه ذات نيران وأنوار
جارتْ عليلتُك المنهاجَ سارية ً … وهل يَضِل على بدر الدجى ساري
ما مثلها ياشهاب الأرضِ غاشية ٌ … معهودة من غواشي تلكمُ الدار
برد أطاف بنار منك موقدة ٍ … ليست تبوخ ولا تُذكى بمسعار
ما كان يجمع جلّ الله بينكما … إلا المؤلفُ بين الثلج والنار
أبشِرْ فإنك طودُ الله أسسهُ … وشاد منه بناء غير منهار
فأمنْ فإن ذكاءً أنت ضامنهُ … قِرنٌ لشكرِك جَلْد غير خوار
ستستجيش عليه أو تُطحطحهُ … في فِيقة ٍ بحريق منه سوّار
وإنما هو برد والسلام لهُ … شَفْع وفيك طباع زَنْده واري
والله يأسر قوماً ثم يُطلقهم … والدهر ينَسخ أطواراً بأطوار
وحسبك العُرف من دِرعٍ ومن تُرُسٍ … وحسبك الله من حصن ومن جار
كأنني بك في سربال عافية ٍ … والحال حالان من نقض وإمرار
تجري فتسبق من يجري إلى كرمٍ … عفواً وأجدِرْ بسبقٍ بعد مضمار
وأنت صاحٍ من الأسقام منتقِبٌ … ديباجة ً ذات إشراق وإسفار
نشوان من أريحيات الندى ثِملٌ … لا من عصارة كَرْم بنت أعصار
مُطعّمٌ طيباتِ العيش تأكلها … والصوم لاشك متبوع بإفطار
عُوّادك الشعراء الصِّيد قد وفدوا … إلى عطاياك من بدو وأمصارِ
عَقْرَى لتأسوهُم كَسْرَى لتجبرَهم … يهوُون كالطير تهوي نحو أوكار
كاروا العمائم واقلولَوا على شُعَبٍ … وأقبلوا بين أكوارٍ وأكوار
جابتْ سهولاً وأوعاراً ركائبهم … كيما يحلّوا سهولاً بعد أوعارِ
في كل هاجرة ٍ شهباءَ حامية ٍ … وكل داجية دهماءَ كالقارِ
فخيَّموا منك في سهلٍ مَباءتُهُ … وأوسعوا بك طراً بعد إقتار
ولو قدرتَ من اللين اللطيف بهم … أحللتَهم بين أجفان وأشفار
فكم ضيوفِ ضيوفٍ في رحالهمُ … وكم هنا لك من زوار زوار
تُطوَى لنا الأرض إن أمَّتك نِيّتُنا … وإن لقيناك زيدت نشرَ أقطار
طيٌ ونشر لشوق لا كفاء له … وطلعة ٌ منك فيها طي إعسار
وحُقَّ أن تُنْشَر الدنيا لذي أملٍ … لاقال ياخيرَ مُمتارٍ لممتارٍ
كما يحق بأن تطوى لذي سفرٍ … نَواك يا خير مُزدار لمزدار
لنا فوائدُ شتّى منك نافعة … عُرف لعافٍ وعرفان لِنظّار
ما انفكّ آتوك من مالٍ تجود به … ومن إضاءة آراءٍ وأفكار
آراؤك البيض تهديهم وتشفَعها … آلاؤك الصُّفر ما الأيدي بأصفار
فالناس تحت سماءٍ منك مشمِسة ٌ … والناس تحت سماءٍ منك مِدْرار
أصحت وصابتْ ففيها كل منفعة ٍ … وربما أصعقت يوماً لأشرار
وليس يصلح لاستصلاح مملكة … غير امرىء ٍ نافع بالحق ضرّار
ما ليم قطّ على استئثاره أحدٌ … إلا وجدناك معذولاً لإيثارِ
تعطي الجزيل وما أكبرتَ قيمتَهُ … وأيسرُ الشكر تلقاهُ بإكبارِ
شهدتُ أنك سَلسال كماء حَيّا … وسائرُ الناس صلصال كفخارِ
أقسمتُ بالفعلاتِ الغُرّ تفعلها … في الناس أنك من غَرّاء مِذْكارِ
لئن سبقتَ إليَّ الناس كلهمُ … لقد سبقت إلى شكري وأشعاري
أبكرتَ فاصطدتني والقومُ في سنة ٍ … وصاحبُ الصيدِ قِدْماً كلُّ مبْكار
أنت الذي صان لي عرضي ومسألتي … عن كل كلبٍ على الأحرار هَرّار
ولن يُثوِّب شعراً كالعليم به … ولن يقوِّم ثوباً مثلُ سمسار
أمطيتَني البِشرَ حُملاناً وأقفرني … قومٌ وكم بين حملان وإقفار
كم سهلة ٍ فيك لاتُكدِي مَحافرها … وصخرة ٍ منك تنبي كلّ منقار
يا خائفاً بدآتٍ منه مشرِفة ً … على عوائدِ سيْب منه ثرثار
ثِقْ بالعوائد منهُ إنه رجل … كالسيل يحفِر تياراً بتيار
لا تَخش من بدئه قَطْعاً لعودته … فإن إقدامه إقدام كرّار
حاشاه أن يردع الإجزالُ كَرّتهُ … أو أن يقدّم إغزاراً لإنزار
بل تستخف بما أعطاك قبضتهُ … حتى يرى ألف قنطار كدينار
وحق من لا يفي شيءٌ بهمته … أن يستقل لعافٍ ألفَ قنطار
خِرْقٌ يحاجز بالإجبار عاذلهُ … ولا يحاجز ممتاحاً بإجبار
ما عامل الدهرَ في إقباله أحدٌ … إلا اشترى منه إقبالاً بإدبارِ
بني ثوابة َ لا زالتْ منازلكم … تُلفَى مثابة مداحٍ وأشعار
أغراضَ منتَزعٍ أكْلاء مرتَبعٍ … مَهْناة َ منتجعٍ غاياتِ أسفار
ما زلتمُ تمنحون العُرفَ جاحدَهُ … حتى أقرّ به من بعد إنكار
وفي الرقاب وُسومٌ من صنائعكم … إن أنكرتْها رجال بعد إقرار
تستعبدون بها الأحرار دهركُمُ … فكم عبيدٍ لكم في الناس أحرار
لكنّ من عَبَّد الأحرار عبدهم … عن غير عمدٍ بحكم للعلى جاري
يريد إعتاق ملهوفٍ فتُلزِمهُ … نُعماهُ رقّاً بلا إثمٍ ولا عارِ
لكم علينا امتنان لا امتنان به … وهل تَمنَّ سماوات بأمطارِ
فكل حرٍّ بنعماكم وصمتكُمُ … من مَنِّكم مكتسٍ من مَنِّكم عاري
وكيف ينوي اعتباد الحر معتقِهِ … في كل بؤس وإعسار بإيسارِ
وما اعتبادكُمُ حراً بمعتمدٍ … أنّى ونياتُكم نيات أخيار
وكم منحتم وكم ألقيتُمُ عِذراً … بعد اللُّهَى لا لتقصير وإقصار
أريتمونا عياناً كل مكرمة ٍ … كانت قديماً لدينا رَجْم أخبار
تخادَعون عن الدنيا وزِبْرجها … فتُخدَعون وما أنتم بأغمار
وتفعلون جميلاً في مساترة ٍ … كأنّ معروفكم إيداع أسرار
ما سار مدحكُمُ في الأرض منشمِراً … إلا بعُرفٍ لكم في الناس سيار
يا رُبّ أبواعِ أقوام ذوي كرمٍ … قِيست فيما عُدلت منكم بأشبار
طُلتم بمجدكُمُ الأمجادَ كلهم … لا تعدموا طول أقدارٍ وأعمار
إن كان أورقَ أقوامٌ فإنكُمُ … مفضّلون بتنوير وإثمارِ
أظللتُمُ بشكيرٍ نبتُهُ ثمر … للمجتبين وحييتم بنُوار
كأنما الناس في الدنيا بظلكُمُ … قد خيموا بين جنات وأنهارِ
أيامُنا غُدواتٌ كلها بكمُ … خلالهن ليالٍ مثل أسحارِ
لكم خلائق لو تحظى السماءُ بها … لما ألاحتْ نجوماً غير أقمارِ
لا ترهبوا الدهر إن العرف ناهضُة ُ … لكم على الدهر منها خير أنصارِ
أنتم بها منه في حِرْزٍ وواقية ٍ … إن صال يوماً بأنيابٍ وأظفار
لولا عمارتكم للملك دولتَهُ … لأصبح الملك في بيداءَ مِقفار
كتّاب ملك إذا شئتم مقاتَلة ً … يستنفر الملك منكم خير أنفار
تقاتلون بآراءٍ مسددة ٍ … لا بل بأسلحة ٍ لا بل بأقدار
أقلامكم كرماح الخط مشرَعة ٌ … طولاً كطولٍ وآثاراً كآثار
آراء صدقٍ أتى التوفيق خِيرتَها … في موقف بين إيراد وإصدار
يا رُبّ ثِقلٍ حملتم عن خلائقنا … لم تعدلوه بآثام وأوزار
لا كالأُلى حملوا ما لا يفون به … وأُوقِروا من أثام أي إيقار
رآكم الله والسلطان حزبهما … فاستعمر الملك منكم خير عمار
لو لم تكونوا دروعاً للدروع بها … لأعورتْ كلُّ درعٍ أي إعوار
أو لم تكونوا سهاماً للسهام بها … إذاً لطاشتْ مرامي كل أُسوار
أو لم تكونوا رماحاً للرماح بها … لم يجعل الله فيها نقض أوتار
أو لم تكونوا سيوفاً للسيوف بها … لأخفرتْ حامليها أيّ إخفار
رعيتُم لِقحات الفيء رِعيتها … فأعقبتْ بعد إنزار بإغزار
حَفّلتُمُ ومريتم كل ناحية ٍ … قد حاردتْ ثم ثَلَّثتم بإدرار
فأترعتْ عفواتُ الدَّرّ مِحلبها … وطال ما لم تصادف غير أغبار
تُلفى العِلاب إذا أدررتُمُ دِرراً … ملأْن بين قرارات وأصبار
يا رُبّ أمرٍ غدا حُضّاره غيباً … وأنتُمُ غيب فيه كحُضار
كم قد سموتم بأيديكم إلى شرفٍ … لم يسمُ قطّ له قوم بأبصار
لاتجعلوا من حديث الناس موعظة ً … ولا يزلْ عُرفكم أسمارَ سُمار
ومستخفٍّ بقدر الشعر قلت له … لن ينفُق العطر إلا عند معطار
لاتُصغِر الشعر إن أصغرت قائلهُ … فإنه غير محقوقٍ بإصغار
ولا يغرّنْك تصريف الهُنِّي له … فتستخفّ بشأن منه كُبار
أما ترى المسك بَيْناه على حجرٍ … يُذلّه كل ذلٍّ فِهْر عَطّار
إذ بَلَّغتهُ صروف الدهر غايتهُ … فاحتلّ منزلة ً من رأس جبار
وقد عرفتُ وغيري حق معرفة … للشعر أنصار صدقٍ أيَّ أنصار
يكفيك أنَّ أبا العباس ينصرهُ … وإنما الحكمُ فيه حكمُ معيار
فاعدِل بلومك عني إنني رجلٌ … أجررتُ في الشعر حبلي أيَّ إجرار
في الشعر أشياءٌ يرتاح الكريم لها … مثل اهتزاز قويم المتن خطاّر
أبني البديع وأهديه إلى ملك … يبني الرفيع وما يبني بأحجار
أضحت له مِنح تحيا بها مِدَحٌ … عُونٌ بعونٍ وأبكار بأبكار
يكسي المديح ولم يُعور مجرّدهُ … وكعبة الله لا تكسي لإعوار
ما في مجرد بيت الله مثْلبة ٌ … كلاّ وإن كان مستوراً بأستارِ
فرد البلاغة لا يخلو مخاطِبُهُ … من سحر يافعة لا سحر سحار
يزداد في القول إنجازاً ومَشربُهُ … محضُ العذوبة لم يَمْلَح لإبحار
لا يعرف الناس إقلالَ العييِّ لهُ … حاشاه ذاك ولا إكثار مِهْذار
تلقى به في مقامات الحجى بطلاً … على كلام سواه غير مغوار
مجانب كل تمويهٍ لبيِّنة ٍ … محارب كل تعذير لاعذار
رأيت مدحك كالإبصار بعد عمى ً … إذ غيره كالعمى من بعد إبصار
إن القريض الذي يخزَى بحائكه … ليَكتسي بك فخراً غير أطمار
كالمسك يفخر منسوباً إلى ملك … وإن تواضع منسوباً إلى القار
يزري على الشعر أقوامٌ بحاكته … وما عليه إذا أُلبستَهُ زاري