ياضارب المَثَلِ المزخرفِ مُطْرِياً – ابن الرومي
ياضارب المَثَلِ المزخرفِ مُطْرِياً … للحقد لم تَقْدح بزَنْدٍ وارِي
أصبحتَ خصم الحق تهدم مابنى … والحقُّ محتجٌّ وأنت تُمارِي
أطريت غثَّك لاسمينك ضلَّة ً … واخترت من خُلقَيْكَ غيرَ خيارِ
شبَّهتَ نفسك والأُلى يولونها … آلاءهم بالأرض والعُمَّارِ
ورأيتَ حفظك ما أتوا من صالحٍ … أو سيءٍ كرماً وعتق نِجارِ
وزعمتَ فيك طبيعة ً أرضية ً … ياسابق التقرير بالإقرارِ
ولقد صدقتَ وماكذبتَ فإنهُ … لايُدفَع المعروف بالإنكارِ
لكن هاتيك الطبيعة َ في الفتى … مما تُلِط عليه بالأستارِ
ولَصمتُهُ عن ذكرها أولى به … من عدِّها في الفخر عند فخارِ
فينا وفيك طبيعة ٌ أرضية ٌ … تهوي بنا أبداً لِشرّ قرارِ
هبطت بآدمَ قبلنا وبزوجهِ … من جنّة الفردوس أفضل دارِ
فتعوَّضا الدنيا الدنيّة كاسمها … من تلكمُ الجنَّاتِ والأنهارِ
بئستْ لَعمرُ الله تلك طبيعة ً … حَرمتْ أبانا قرب أكرم جارِ
واستأسرتْ ضِعفيْ بنيه بعدهُ … فهُمُ لها أسرى بغير إسارِ
لكنها مأسورة ٌ مقسورة ٌ … مقهورة السلطان في الأحرارِ
فجسومهم من أجلها تهوي بهم … ونفوسهم تسمو سموّ النارّ
لولا منازعة ُ الجسوم نفوسهم … نفذوا بسَوْرتها من الأقطارِ
أو قصّروا فتناولوا بأكفهم … قمرَ السماء وكلّ نجم ساري
عَرفوا لروح الله فيهم فضلَ ما … قد أثَّرتْ من صالح الآثارِ
فتنزَّهوا وتعظّموا وتكرموا … عن لؤم طبع الطين والأحجار
نزعوا إلى النَّجد الذي منه أتت … أرواحهم وسموا عن الأغوار
هذا عبيد الله منهم واحد … لكنه هو واحد المِضمار
ملك له هِممٌ تُنيف على العلا … ويدٌ تطول مواقع الأقدار
وإذا عطا للمجدِ نال بكفه … ما لا ينال الناس بالأبصار
ولقد رأيت معاشراً جمحتْ بهم … تلك الطبيعة نحو كل تَبار
تهوي نفوسُهُم هُوِيَّ جسومهم … سِفلاً لكل دناءة ٍ وصَغار
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى … منه الهُويُّ بأهله فحذار
لاترضَ بالمثل الذي مثلْتَهُ … مثلاً ففيه مقالة ٌ للزاري
وانظر بعين العقل لاعين الهوى … فالحق للعين الجليَّة عاري
الأرضُ في أفعالها مضطرة ٌ … والحيُّ فيه تصرّفُ المختار
فمتى جريتَ على طباعك مثلَها … فكأن طِرْفك بعدُ من فخّار
أخرجت من باب المشيئة مثل ما … خرجتْ فأنت على الطبيعة جاري
أنَّى تكون كذا وأنت مُخَيَّرٌ … مُتَصرف في النقض والإمرار
أين اصطراف الحيّ في أنحائه … وحويلهُ فيما سوى المقدار
أين اختيار مخيَّر حسناته … إن كنت لست تقول بالإجبار
شهد اتفاقُ الناس طرّاً في الهوى … و تفاوتُ الأبرار والفجار
أن الجميع على طباعٍ واحد … وبما يرونْ تفاضلُ الأطوارِ
فمتى رأيت حميدهم وذميمهم … فبفضل إيثار على إيثار
قاد الهوى الفجارَ فانقادوا له … وأبتْ عليه مقادة ُ الأبرار
لولا صروف الإختيار لأعنَقُوا … لهوًى كما استقت جمال قِطار
ورأيتَهم مثل النجوم فإنها … متتابعاتٌ كلها لمدار
مُتيمِّمات سَمْتَ وجهٍ واحد … ولها مطالع جمَّة ٌ ومَجاري
فانسَ الحُقود فإنها منسية ٌ … إلا لدى اللؤماء والأشرار
واعصِ الطباع إذا أطبَاك لحفظها … واختر عليهتَكُنْ من الأخيار
مازال طبع الأرض يقهر لؤمَهُ … مَنْ فيه رُوح الواحد القهار
لا تنسَ روحَ الله فيك وأنها … جُعِلت لتصلِح منك كل عُوَار
إن الحُقود إذا تذكرها الفتى … تحيا حياة الجمر بالمِسعار
ولعلها إن لا تضرّ عدوهُ … وهو المسلِّف عاجل الإضرار
تَصلَى جوانحَ صدره من حقده … بلهيب جمرٍ ثاقبٍ وأُوار
فلصدرِهِ من ذاك شرُّ بِطانة … ولقلبه من ذاك شر سُعار
ذاك الذي نقد المكيدة نفسه … نقداً وكاد عدوه بِضمار
ما نال منه مناله من نفسه … وِترُ الأُلى وَتَروه بالأوتار
ردّت يداه كَيْدَه في نحرهِ … وكذا تكون مَكايد الأغمار
وكفى الحقود مهانة ً وغضاضة ً … أن لست تلقاه عدوّ جهار
لكنه يمشي الضَّراء بحقده … ليلاً ويَلبد تحت كل نهارِ
يلقى أعاديه بصفحة ذلة ٍ … سِلمَ اللسان مُحارب الإضمار
لكن أهل الطّوْل من متجاوِزٍ … ومُعاقبٍ جهراً بغير تواري
طرحوا الضغائن إذ رأوا لنفوسهم … خطراً ينيف بها على الأخطار
فانظر بعين الرأي لا بعينِ الهوى … فالحق للعين الجليّة عاري
النفسُ خيرك إنها علوية … والجسم شرُّك ليس فيه تماري
فانْقد لخيرك لا لشرك واتبِعْ … أولاهما بالقادرِ الغفار
كن مثل نفسك في السمو إلى العلى … لا مثل طينة جسمِك الغدار
فالنفس تسمو نحو علو مليكها … والجسم نحو السفل هاوٍ هاري
فأعِنْ أحقَّهما بعونك واقتسِر … طبع السِّفال بطبعك السَّوَّارِ
إياك واستضعافَ حقٍّ إنه … في كل حينٍ حاضرُ الأنصارِ
والحق والشُّبَهُ التي بإزائه … كالشمس جاوَرها هلالُ سِرارِ