قلب راقصة – إبراهيم ناجي
أمسيتُ أشكو الضيقَ والأينا … مستغرقاً في الفكرٍِ والسأمِ
فمضيتُ لا أدري إلى أينا … ومشيت حيث تجرّني قدمي
فرأيتُ فيما أبصَرَتْ عيني … مَلهيً أعِدَّ ليبهجَ الناسا
يجلون فيه فرائدَ الحسنِ … ويباع فيه اللهو أجناسا
بغرائب الألوان مزدهر … وتراه بالأضواء مغموراً
فقصدته عَجِلاً ولي بصرٌ … شبه الفراشة يعشق النورَا
ودخلتهُ أجتازُ مزدحماً … بالخَلق أفواجاً وأفواجا
وأخوضُ بحراً بات ملتطماً … بالناس أمواجاً وأمواجا
فقدوا حجاهم حينما طربوا … ودووا دويَّ البحرِ صخّابا
فإذا استقرّوا لحظةً صخبوا … لا يملكون النفسَ إعجابا
متوثبين يميلُ صفُهم … متطلعَ الأعناق يتقدُ
ومصفين عَلَتْ أكفُهم … فوّارةً فكأنها الزبدُ
لِمَ لا أثورُ اليومَ ثورتهم؟ … لِمَ لا أضجُّ كما يضجونا؟
لِمَ لا تذوق كؤوسَهم شفتي؟ … إنَّ الحجا سُمّي وتدميري
في ذمةِ الشيطانِ فلسفتي … ورزانتي ووقارِ تفكيري
يا قلبُ ضقتَ وها هنا سعةٌ … ومجالٌ مصفودٍ بأغلال
أتقول أعمارٌ مضيعة؟ … ماذا صنعت بعمرك الغالي؟
أنظر ترَ السيقان عاريةً … وترَ الخصورَ ضوامراً تغري
وتجدْ عيون اللهو جارية … فهنا الحياة وأنت لا تدري
مَنْ هذه الحسناءُ يا عيني؟ … السحرُ كلَّلها وظلَّلها
كالطيرِ من غصنٍ إلى غصنِ … وثّابةَ، وثب الفؤاد لها
تراه حسناً غيرَ كذابِ … لا ما يزيفه لك الضوء
ويزيد فتنتَها باغرابِ … حزنٌ وراءَ الحسن مخبوءُ
ثم اختفتْ والجميعُ يرقبها … ويلحُّ: عودي ليس يرحمها
هي متعةٌ للحسِّ يطلبها … وأنا بروحي بتُّ أفهمُها
ورأيتُها في آخر الليلِ … في فتيةٍ نصبوا لها شركا
يعلو سناها الحزنُ كالظل … مسكينة تتكلّفُ الضحكا
فمضيتُ توّاً، قلت: سيدتي … زنتِ المراقص أيّما زين
هل تأذنين الآن ساحرتي … تأكيدَ إعجابي بكأسين؟
فتمنّعت وأنا ألحّ سديً … بالقول أغريها وأعتذر
فاستدركتْ قالت: أراك غداً … ان شئتَ. إني اليوم أَعتذر
وتحوَّلت عني لرفقتها … ما بين منتظرٍ ومرتقبِ
فتَّانة تغري ببسمتِها … وتحدّدُ الميعادَ في أدبِ
حان اللقاءُ بغادتي وأنا … أخشى سراباً خادعاً منها
متلهفاً أستبطىءُ الزمنا … وأظل أسأل ساعتي عنها
وأجيل عينَ الريب ملتفتاً … متطلعاً للباب حيرانا
وأقول: ما يدريك أي فتى … هي في ذراعيْ حبه الآنا
مَنْ ذا يُصدّقُ وعدَ فاتنة … لا ترحمُ الأرواحَ إتلافا
أنثى تلاقي كل آونةٍ … رجلاً وترمي الوعدَ آلافا
وهمتُ بعد اليأسِ أن أمضي … فإذا بها تختالُ عن بُعدِ
ميّزتها بشبابها الغضِّ … وبقدِّها، أُفديه من قدِّ
يا للقلوب لملتقى اثنين … لا يعلمان لأيما سَبَبِ
جمعتهما الدنيا غريبين … فتآلفا في خلوةٍ عَجَبِ
عجباً لقلب كان مطمعه … طَرَباً فجاء الأمرُ بالعكس
وأشدّ ما في الكون أجمعه … بين القلوب أواصرُ البؤس
مَن أنت يا مَن روحُها اقتربت … مني وخاطب دمعُها روحي
صبّته في كأسي وما سكبتْ … فيه سوى أنَّاث مذبوحِ
عجباً لنا في لحظة] صرنا … متفاهمين بغير ما أمدِ
يا مَن لقيتُك أمس هل كنا … روحين ممتزجين في الأبد؟
هاتي حديثَ السقمِ والوصبِ … وصِفي حقارةَ هذه الدنيا
اني رأيتُ أساكِ عن كثبِ … ولمستُ كَربَكِ نابضاً حيَّا
لا تكتمي في الصدرِ أسرارا … وتحدثي كيف الأسى شاءَ
أنا لا أرى إثماً ولا عارا … لكن أرى امرأةً وبأساء
تجدين فكرَك جدّ مبتعد … والقومُ كثرٌ لا يُعدّونا
وتريْن حالك حالَ منفرد … والقومُ كثرٌ لا يُعدّونا
وترين إنكِ حيثما كنتِ … ترضين خوّانين أنذالا
يبغونه جسداً فإن بعتِ … بذلوا النضار وأجزلوا المالا
يا حرَّها من عبرةٍ سالتْ … مِن فاتكِ العينين مكحولِ
وعذابها من وحشة طالتْ … وحنين مجهولٍ لمجهولِ
أفنيتِ عمرَك في تطلبه … ويكادُ يأكلُ روحَكِ المللُ
فإِذا بدا مَنْ تعجبين به … وتقول روحُك: ها هو الأملُ
أدميتِ قلبَك في تقرّبهِ … والقلبُ إن يخلص يَهُنْ دمُهُ
فإِذا حسبتِ بأن ظفرتِ بهِ … فازت به من ليس تفهمُهُ
سكتت وقد عجبت لخلوتنا … طالتْ كأنَّا جدّ عشاقِ
وأقول: يا طرباً لنشويِنا … صرعى المدامة والجوى الساقى
أفديكِ باكيةً وجازعةً … قد لفّها في ثوبهِ الغسقُ
ودعتُها شمساً مودّعة … ذهبت وعندي الجرحُ والشفقُ
تمضي، وتجهلُ كيف أكبرها … إذ تختفي في حالك الظلم
روحاً إذا أثمت يطهرها … ناران: نارُ الصبرِ والألَمِ