عَصَيْتُ نَذِيرَ الْحِلْمِ فِي طَاعَة ِ الْجَهْلِ – محمود سامي البارودي

عَصَيْتُ نَذِيرَ الْحِلْمِ فِي طَاعَة ِ الْجَهْلِ … وَأَغْضَبْتُ فِي مَرْضَاة ِ حُبِّ الْمَهَا عَقْلِي

وَنَازَعْتُ أَرْسَانَ الْبَطَالَة َ وَالصِّبَا … إِلَى غَايَة ٍ لَمْ يَأْتِهَا أَحَدٌ قَبْلِي

فخذْ في حديثٍ غيرِ لومي ، فإنني … بجبَّ الغواني عنْ ملامكَ في شغلِ

إذا كانَ سمعُ المرءِ عرضة َ ألسنٍ … فما هوَ إلاَّ للخديعة ِ وَ الختلِ

رُوَيْدَكَ، لاَ تَعْجَلْ بِلَوْمٍ عَلَى امْرِىء ٍ … أَصَابَ هَوَى نَفْسٍ؛ فَفِي الدَّهْرِ مَا يُسْلِي

فليستْ بعارٍ صبوة ُ المرءِ ذي الحجا … إذا سلمتْ أخلاقهُ من أذى الخبلِ

وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَ كَأْسٍ وَلَذَّة ٍ … لَذُو تُدْرَإٍ يَوْمَ الْكَرِيهَة ِ وَاْلأَزْلِ

وَقُورٌ، وَأَحْلاَمُ الرِّجَالِ خَفِيفَة ٌ … صبورٌ ، وَ نارُ الحربِ مرجلها يغلي

إِذَا رَاعَتِ الظَّلْمَاءُ غَيْرِي، فَإِنَّمَا … هلالُ الدجى قوسي ، وأنجمهُ نبلي

أنا ابنُ الوغى ، والخيلِ ، والليلِ ، والظبا … وَسُمْرِ الْقَنَا، وَالرَّأْيِ، وَالْعَقْدِ، والْحَلِّ

فَقُلْ لِلَّذِي ظَنَّ الْمَعَالي قَريبَة ً … رويداً ؛ فليسَ الجدُّ يدركُ بالهزلِ

فَمَا تَصْدُقُ الآمَالُ إِلاَّ لِفَاتِكٍ … إذا همَّ لمْ تعطفهُ قارعة ُ العذلِ

لَهُ بِالْفَلا شُغْلٌ عَنِ الْمُدْنِ وَالْقُرَى … و في رائداتِ الخيلِ شغلٌ عنِ الأهلِ

إذا ارتابَ أمراً ألهبتهُ حفيظة ٌ … تميتُ الرضا بالسخطِ ، والحلمَ بالجهلِ

فَلاَ تَعْتَرِفْ بِالذُّلِّ خَوْفَ مَنِيَّة ٍ … فَإِنَّ احْتِمَالَ الذُّلِّ شَرٌّ مِنَ الْقَتْلِ

وَلاَ تَلْتَمِسْ نَيْلَ الْمُنَى مِنْ خَلِيقَة ٍ … فَتَجْنِي ثِمَارَ الْيَأْسِ مِنْ شَجَرِ الْبُخْلِ

فما الناسُ إلاَّ حاسدٌ ذو مكيدة ٍ … وَ آخرُ محنيُّ الضلوعِ على دخلِ

تِبَاعُ هَوًى ، يَمْشُونَ فِيهِ كَمَا مَشَى … و سماعُ لغوٍ ، يكتبونَ كما يملى

وَمَا أَنَا وَالأَيَّامُ شَتَّى صُرُوفُهَا … بِمُهْتَضِمٍ جَارِي، وَلاَ خَاذِلٍ خِلِّي

أَسِيرُ عَلى نَهْجِ الْوَفَاءِ سَجِيَّة ً … و كلُّ امرئً في الناسِ يجري على الأصلِ

تَرَكْتُ ضَغِينَاتِ النُّفُوسِ لأَهْلِهَا … وَأَكْبَرْتُ نَفْسِي أَنْ أَبِيتَ عَلَى ذَحْلِ

كذلكَ دأبي منذُ أبصرتُ حجتي … وليداً ؛ وَ حبُّ الخيرِ منْ سمة ِ النبلِ

وَ ربَّ صديقٍ كشفَ الخبرُ نفسهُ … فعاينتُ منهُ الجورَ في صورة ِ العدلِ

وَهَبْتُ لَهُ مَا قَدْ جَنَى مِنْ إسَاءَة ٍ … وَلَوْ شِئْتُ، كَانَ السَّيْفُ أَدْنَى إِلَى الْفَصْلِ

وَ مستخبرٍ عني ، وما كانَ جاهلاً … بشأني ، وَ لكنْ عادة ُ البغضِ للفضلِ

أَتَى سَادِراً، حَتَّى إِذا قَرَّ أَوَجَسَتْ … سويداؤهُ شراً ؛ فأغضى على ذلَّ

وَمَنْ حَدَّثَتْهُ النَّفْسُ بِالْغَيِّ بَعْدَ مَا … تَنَاهَى إِلَيْهِ الرُّشْدُ سَارَ عَلى بُطْلِ

وَإِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنَ الْمَجْدِ أَنْ أُرَى … صَرِيعَ مَرَامٍ لا يَفُوزُ بِهَا خَصْلِي

أقولُ وأتلو القولَ بالفعلِ كلما … أَرَدْتُ؛ وَبِئْسَ الْقَوْلُ كَانَ بِلا فِعْلِ

أَرَى السَّهْلَ مَقْرُوناً بِصَعْبٍ، وَلا أَرَى … بغيرِ اقتحامِ الصعبِ مدركَ السهلِ

و يومٍ كأنَّ النقعَ فيهِ غمامة ٌ … لها أثرٌ منْ سائلِ الطعنِ كالوبلِ

تَقَحَّمْتُهُ فَرْداً سِوَى النَّصْلِ وَحْدَهُ … وَحَسْبُ الْفَتَى أَنْ يَطْلُبَ النَّصْرَ بِالنَّصْلِ

لَوَيْتُ بِهِ كَفِّي، وَأَطْلَقْتُ سَاعِدِي … وَقُلْتُ لِدَهْرِي: وَيْكَ فَامْضِ عَلى رِسْلِ

فما يبعثُ الغاراتِ إلاَّ مهندى … وَ لا يركبُ الأخطارَ إلاَّ فتى ً مثلي