شيَّعوا الشمس ومالوا بضحاها – أحمد شوقي

شيَّعوا الشمس ومالوا بضحاها … وانحنى الشرقُ عليها فبكاها

ليتني في الركبِ لما أفلتْ … يوشعٌ، همَّتْ، فنادَى ، فثناها

جَلَّل الصبحَ سواداً يومُها … فكأنّ الأرض لم تخلع دجاها

انظروا تلقوا عليها شفقاً … من جراحاتِ الضحايا ودِماها

وتروا بينَ يديها عبرة ً … من شهيدٍ يقطرُ الورد شذاها

آذنَ الحقُّ ضَحاياها بها … وَيْحَهُ حتى إلى الموتى نَعاها

كفّنوها حُرَّة ً عُلْوِيّة ً … كستِ الموتَ جلالاً، وكساها

مِصْرُ في أَكفانها إلا الهدى … لحمة ُ الأكفانِ حقٌّ وسداها

خطر النعشُ على الأَرض بها … يَحْسِرُ الأَبصارَ في النعش سَناها

جاءها الحقُّ، ومنْ عادتها … تؤثر الحقَّ سبيلاً واتَّجاها

ما دَرتْ مصرٌ: بدفن صُبِّحَتْ … أَم على البعثِ أَفاقَتْ مِنْ كَراها؟

صرختْ تحسبها بنتَ الشرى … طَلَبَتْ مِنْ مِخْلَب الموتِ أَباها

وكأَن الناسَ لما نَسَلوا … شُعَبُ السيل طَغتْ في مُلتقاها

وضعوا الرّاحَ على النعشِ كما … يلمسون الرُّكنَ، فارتدَّتْ نزاها

خَفضوا في يوم سعد هامَهم … وبسعدٍ رَفعوا أَمسِ الجِباها

سائلوا زحلة َ عن أعراسها … هل مشى الناعي عليها فمحاها؟

عطَّلَ المصطافَ من سمَّارِه … وجلا عن ضفة الوادي دماها

فتحَ الأَبوابَ ليلاً دَيْرُها … وإلى الناقوسِ قامتْ بيعتاها

صدَع البرقُ الدُّجَى ، تنشرُه … أرضُ سوريا، وتطويه سماها

يحملُ الأنباء تسري موهناً … كعوادي الثكل في حرِّ سراها

عرضَ الشكُّ لها فاضطربتْ … تَطأُ الآذانَ هَمْساً والشِّفاها

قلتُ: يا قوم اجمعوا أحلامكم … كلُّ نفسٍ في وَرِيدَيْها رَداها

يا عدوَّ القيدِ لم يلمحْ له … شبحاً في خطة ٍ إلا أباها

لا يضقْ ذرعكَ بالقيد الذي … حزَّ في سوق الأوالي وبراها

وقعَ الرسلُ عليه، والتوتْ … أَرجلُ الأَحرارِ فيه فعَفاها

يا رُفاتاً مِثلَ رَيْحَانِ الضُّحى … كلَّلَتْ عَدْنٌ بها هامَ رُباها

وبقايا هيكل من كرمٍ … وحياة أَتْرَعَ الأَرض حَياها

ودَّعَ العدلُ بها أعلامه … وبكتْ أنظمة ُ الشورى صواها

حَضنتْ نعشك، والتفَّتْ به … راية ٌ كنتَ من الذلّ فداها

ضمَّت الصدرَ الذي قد ضمَّها … وتلقَّى الهمَّ عنها فوقاها

عجبي مِنها ومن قائدها … كيف يَحمِي الأَعزلُ الشيخُ حِماها؟

مِنْبَرُ الوادي ذَوَت أَعوادُه … مِن أَواسِيها وجَفَّتْ من ذُراها

من رمى الفارسَ عن صهوتها … ودَعا الفُصحى بما أَلجمَ فاها؟

قدرٌ بالمدن ألوى والقرى … ودَها الأَجبالَ منه ما دَهاها

غال بَسْطورا وأَردَى عُصبة ً … لمستْ جرثومة َ الموتِ يداها

طافت الكأْسُ بساقي أُمّة ٍ … من رحيقِ الوطنياتِ سقاها

عطلتْ آذانها من وترٍ … ساحرٍ رَنَّ مَلِيّاً فشجاها

أَرغُنٌ هامَ به وِجْدَانُها … وأَذانٌ عَشِقتْه أُذُناها

كلَّ يومٍ خطبة ٌ روحية ٌ … كالمزامير وأنغامِ لغاها

دَلَّهَتْ مصراً ولو أَنَّ بها … فلواتٍ دلَّهتْ وحش فلاها

ذائدُ الحقِّ وحامي حوضه … أَنفَذَتْ فيه المقاديرُ مُناها

أخذتْ سعداً من البيت يدٌ … تأْخذُ الآسادَ من أَصل شراها

لو أصابت غيرَ ذي روحٍ لما … سلمتْ منها الثريا وسهاها

تتحدّى الطبَّ في قفّازها … علَّة ُ الدهر التي أعيا دواها

من وراءِ الإذنِ نالتْ ضيغماً … لم ينلْ أقرانه إلا وجاها

لم تصارحْ أصرحَ الناسِ يداً … ولساناً، ورُقاداً، وانتباها

هذه الأعوادُ من آدمَ لمْ … يهدَ خفَّاها، ولم يعرَ مطاها

نقَلَتْ خُوفو ومالتْ بمِنا … لم يفتْ حيَّاً نصيبٌ من خطاها

تَخْلِطُ العُمْرينِ: شيْباً، وصِباً … والحياتين: شقاءً، ورفاها

زورقٌ في الدمعِ يطفو أبداً … عرَفَ الضَّفَّة َ إلا ما تلاها

تهلع الثَّكلى على آثاره … فإذا خفَّ بها يوماً شفاها

تسكبُ الدمعَ على سعدٍ دماً … أُمة ٌ من صخرة ِ الحقِّ بناها

من ليانٍ هو في ينبوعها … وإباءٍ هو في صمِّ صفاها

لُقِّنَ الحقَّ عليه كَهلُها … واستقى الإيمانَ بالحقِّ فتاها

بذلتْ مالاً، وأمناً، ودماً … وعلى قائدها ألقتْ رجاها

حمَّلته ذمَّة ً أوفى بها … وابتلَتْه بحقوقٍ فقضاها

ابنُ سبعينَ تلقَّى دونها … غُربة َ الأَسرِ، ووَعْثاءَ نَواها

سفرٌ من عدن الأرضِ، إلى … منزلٍ أَقرَبُ منه قُطُباها

قاهرٌ ألقى به في صخرة ٍ … دفعَ النسرَ إليها فأَواها

كرهتْ منزلها في تاجه … دُرّة ٌ في البحر والبرِّ نفاها

اسأَلوها، واسأَلوا شانِئَها … لِمَ لمْ يَنفِ من الدُّرِّ سِواها؟

ولَدَ الثَّورَة َ سعدٌ حُرّة ً … بحياتيْ ماجد حُرٍّ نَماها

ما تَمنَّى غيرَها نسلاً، ومَنْ … يلِدِ الزَّهراءَ يَزْهَدْ في سواها

سالت الغابة ُ من أَشبالها … بينَ عينيهِ وماجتْ بلباها

بارك اللهُ لها في فرعها … وقضى الخيرَ لمصرٍ في جناها

أولم يكتبْ لها دستورها … بالدمِ الحرِّ، ويَرْفَعْ مُنتداها؟

قد كتبتاها، فكانت صورة ً … صَدْرُها حقٌّ وحقٌّ مُنتهاها

رَقَدَ الثائرُ إلا ثورة ً … في سبيل الحقِّ لم تَخمد جُذاها

قد تولاَّها صبيَّاً فكوتْ … راحَتَيْهِ، وفَتِيّاً فرعاها

جالَ فيها قلماً مستنهضاً … ولِساناً كلَّما أَعْيَتْ حَداها

ورمى بالنفس في بركانها … فتلقَّى أولَ الناسِ لظاها

أَعلِمتم بعد موسى مِنْ يَدٍ … قذفتْ في وجه فرعونَ عصاها؟

وطئتْ نادبة ً صارخة ً … شاهَ وجهُ الرّقِّ ـ يا قوم ـ وشاها

… وسيوفُ الهندِ لم تصحُ ظباها

أين منْ عينيَّ نفسٌ حرَّة ٌ … كنتُ بالأَمسِ بعينيَّ أَراها؟

كلما أَقبلت هَزَّتْ نفسها … وتواصى بشرها بي ونداها

وجرى الماضي، فماذا ادَّكرتْ … وادِّكارُ النفسِ شيءٌ من وَفاها؟

أَلمحُ الأَيَامَ فيها، وأَرى … من وراءِ السنِّ تمثالَ صباها

لستُ أَدري حينَ تَندَى نَضرة ً … عَلَتِ الشَّيْبَ، أَم الشَّيْبُ عَلاها؟

حَلَّت السبعون في هيكلها … فتداعى وهيَ موفورٌ بناها

روعة ُ النادي إذا جدَّتْ، فإن … مزحتْ لم يذهب المزحُ بهاها

يَظفَرُ العُذْرُ بأَقصى سُخطِها … وينالُ الودُّ غاياتِ رضاها

ولها صبرٌ على حسِّادها … يشبه الصفحَ، وحلمٌ عن عداها

لستُ أنسى صفحة ً ضاحكة ً … تأْخذ النفسَ وتَجرِي في هواها

وحديثاً كرِوايات الهوى … جدَّ للصبِّ حنينٌ فرواها

وقناة ً صعدة ً لو وهبتْ … للسَّماكِ الأعزلِ اختالَ وتاها

أين منِّي قلمٌ كنتُ إذا … سمتُه أَن يَرثِيَ الشمسَ رَثاها؟

خانني في يوم سعدٍ، وجَرى … في المراثي فكَبا دونَ مَداها

في نعيم الله نفسٌ أوتيتْ … أنعمَ الدنيا فلم تنسَ تقاها

لا الحِجَى لمّا تَنَاهَى غَرّها … بالمقاديرِ، ولا العِلمُ زَهاها

ذَهَبَتْ أَوّابة ً مُؤمِنَة ً … خالصاً من حيرة ِ الشكِّ هداها

آنستْ خلقاً ضعيفاً ورأتْ … من وراءِ العالَمِ الفانِي إلڑها

ما دعاها الحقُّ إلا سارَعَتْ … ليتَه يومَ «وَصِيفٍ» ما دعاها