خلا القصر ممن كان يملأه بشرا – جبران خليل جبران
خلا القصر ممن كان يملأه بشرا … وجلل حزن روضة القصر والقصرا
فتى الخلق العالي وما طال عهده أعاف … اصطحاب الناس فاصطحب الزهرا
مشت مصر في تشييعه وتدفقت … وفود إلى الفسطاط زاخرة زخرا
أعاظمها خلف الجنازة خشع … يواكبهم شعب محاجره شكرى
كإكرامهم خير الأبوة قبله … لقد أكرموا خير البنين ومن أحرى
يعيدون ذكر الأصل في ذكر فرعه … وتلك لعمري سيرة تبعث الفخرا
أحاديثها تذكي عزائم من وعى … وتترك في الألباب من بعدها أثرا
إذا ما استعرنا ضوءها فكأننا … فتحنا بها للقابس المهتدي سفرا
حبيب نحا نحو العلى وهو يافع … ولم يثنه أن كان مسلكها وعرا
فاقدم إقدام الذي راض نفسه … على الصعب واعتد الشجاعة والصبرا
يؤثل بالروح العصامي جاهه … فإما تجنى دهره كافح الدهرا
عليما بأن الحي لا يدرك المنى … إذا هو لم يقتل نصاريفه خبرا
فآب امرأ في جيله نسج وحده … يخاف ويرجى منه ما ساء أو سرا
وبلغه أقصى الأماني أنه … بأخلاقه أثرى وأمواله أثرى
أتاحت له عقبى الجهاد إمارة … وفي بيعة الله التي شادها قرا
وحالفه التوفيق في العيش والردى … فطابت له الدنيا وطابت له الأخرى
فلما تولى وطد الله بيته … بأعقاب خير شرفوا البيت والنجرا
ثلاثة أقيال تمثل فيهم … أبوهم ولم يألوه حبا ولا برا
تراهم ففي كل ترى من أبيهم … ملامحه الغراء والشيم الزهرا
وكانوا مثالا للأخوة يحتذى … وقدوة من يرعى القرابة والأصرا
فيا للأسى أن فرق اليوم بينهم … زمان إذا ألفى وفاء رمى غدرا
دوى أنضر الإخوان قبل أوانه … فأية ريح صوحت عوده النضرا
وأودت بملء العين أروع باذخ … سما كل ند هامة وسما قدرا
سري من الغر الميامين نابه … به كبر حق وما يعرف الكبرا
همام رمى أسمى المرامي ولم يكد … طموح إلى مجد يجاريه في مجرى
له مرجع في أمره حكم نفسه … ومن لم يحرر نفسه لم يكن حرا
صبيح المحيا أريحي محبب … إلى الخلق لا كيدا يكن ولا مكرا
يلوح له سر النجي فراسة … ويأبى عليه النبل أن يكشف السرا
جهير بإلقاء الكلام مصارح … وفيما عدا إحسانه يؤثر الجهرا
وليس كظيم الغيظ لكنه إذا … شفاه بعتب لم يضق بأخ صدرا
وليس بهياب ولا متردد … إذا حدثته نفسه فنوى أمرا
وفي كل حال يفعل الفعل كاملا … ولا يستشير الحرص أو ينتهي حذرا
يرى تارة كالليث إن هيج بأسه … وآنا يرى كالغيث من رحمة ثرا
فما هو بالساعي إلى الشر بادئا … وما هو بالواهي إذا دفع الشرا
وأما أياديه فليس أقلها … وقد ذاع مما نستطيع له حصرا
أفي معهد للبر لم يك جهده … على قدر ما يرجى وآلاؤه تترى
ألم يمنح الآداب والعلم عونه … وما يبتغي من غير خالقه أجرا
ألم يرع شأن المستمدين رزقهم … من الكد زراعا يكونون أو تجرا
ألم يعط بالبذل الوجاهة حقها … وكم يتناسى الحق من أعطي الوفرا
تظل وفود الناس تغشى رحابه … ويسرف في الأنعام غلمانه نحرا
فرب الحمى يستقبل الضيف مبشرا … وروض الحمى يستقبل الضيف مغترا
فضائل زادتها سناء وروعة … جلائل ما يأتيه في حبه مصرا
إذا ما دعا داعي الحفاظ أجابه … مجيب يرى التفريط في حقه كفرا
سل العرب عنه من ملوك وفي لهم … وفي دين للأوطان لم يألهم نصرا
بنفس همام لا ترى عند نفسها … لإخفاقه عذرا وإن أبلت العذرا
عزاء الشقيقين الحزينين هكذا … جرى الأمر والأحجى من امتثل الأمرا
وغير كثير أن نرجي منهما … مآثر تبقيه بإيقائها الذكرى
عزاءك يا أوفى الشقيقات وارفقي … بقلب رفيق فيه أذكى الأسى جمرا
أما كان ذاك القلب والعقل نوره … لقلب أخيك الموئل الهادي الطهرا
فقيد المعالي والمروءات والندى … وحلو السجايا إن حلا العيش أو مرا
أتيت أمورا في الحياة كبيرة … وكان سمو النفس آيتها الكبرى
أتشهد هذا الجمع من صفوة الحمى … وأجفانهم تهمي وأنفاسهم حرى
لك الصدر قبل اليوم والقول بينهم … فقد حل رسم صامت دونك الصدرا
فديت صفيا أصحب العمر بعده … وما حال مفقود المنى يصحب العمرا
ستحيا بقلبي ما حييت فإن أمت … ستحيا بشعري ما روى الناس لي شعرا