تلك الدجنة آذنت بجلاء – جبران خليل جبران
تلك الدجنة آذنت بجلاء … وبدا الصباح فحي وجه ذكاء
ألعدل يجلوها مقلا عرشها … والظلم يعثر عثرة الظلماء
يا أيها العظيم تحية … فك الأسارى بعد طول عناء
أوشكت فيك وقد نسيت شكيتي … أن أوسع الأيام طيب ثناء
حسبي اعتذارك عن مساءة ما مضى … بمبرة موفورة الآلاء
ألشمس يزداد ائتلافا نورها … بعد اعتكار الليلة الليلاء
ويضاعف السراء في إقبالها … تذكار ما ولى من الضراء
لا كانت الحجج التي كابدتها … من بدء تلك الغارة الشعواء
ألحزن حيث أبيت ملء جوانحي … والناء ملء جوانب الغبراء
دامي الحشاشة لم أخلني صابراً … بعد الفراق فظافرا بلقاء
منهد أركان العزيمة لم أكد … يأسا أمني مهجتي بشفاء
حجج بلوت الموت حين بلوتها … متعرضا لي في صنوف شقاء
لكنها والحمد لله انقضت … وتكشفت كتكشف الغماء
وغدا الخليل مهنئا ومهنئا … بعد الأسى وتعذر التأساء
جذلان كالطفل السعيد بعيده … مسترسلا في اللفظ والإيماء
يقضي وذلك نذره في يومه … حاجات سائله بلا إبطاء
ما كان أجوده على بشرائه … بثرائه لو كان رب ثراء
عاد الحبيب المفتدى من غربة … أعلت مكانته عن الجوزاء
إن الأديب وقد سما ببلائه … غير الأديب وليس رب بلاء
في برشلونة نازح عن قومه … ودياره والأهل والقرباء
ناء ولو أغنت من المقل النهى … ما كان عنهم لحظة بالنائي
بالأمس فيه العين تحسد قلبها … واليوم يلتقيان في نعماء
أهلا بنابغة البلاد ومرحبا … بالعبقري الفاقد النظراء
شوقي أمير بيانها شوقي فتى … فتيانها في الوقفة النكراء
شوقي وهل بعد اسمه شرف إذا … شرفت رجال النبل بالأسماء
وافى ومن للفاتحين بمثل ما … لاقى من الإعظام والإعلاء
مصر تحييه بدمع دافق … فرحا وأحداق إليه ظماء
مصر تحييه بقلب واحد … موف هواه به على الأهواء
جذلى بعود ذكيها وسريها … جذلى بعود كميها الأباء
حامي حقيقتها ومعلي صوتها … أيام كان الصوت للأعداء
ألمنشيء اللبق الحفيل نظيمه … ونثيره بروائع الأبداء
ألبالغ الخطر الذي لم يعله … خطر بلا زهو ولا خيلاء
ألصادق السمح السريرة حيث لا … تعدو الرياء مظاهر السمحاء
علما بأن الأقوياء ليومهم … هم في غدا غد من الضعفاء
ألطيب النفس الكريم بماله … في ضنة من أنفس الكرماء
ألكاظم الغيظ الغفور تفضلا … وتطولا لجهالة الجهلاء
جد الوفي لصحبه ولأهله … ولقومه إن عز جد وفاء
ألمفتدي الوطن العزيز بروحه … هل يرتقي وطن بغير فداء
متصديا للقدوة المثلى وما … زال السراة منائر الدهناء
هذي ضروب من فضائله التي … رفعته فوق منازل الأمراء
جمعت حواليه القلوب وأطلقت … بعد اعتقال ألسن الفصحاء
ما كان للإطراء ذكرى بعضها … وهي التي تسمو عن الإطراء
قلت اليسير من الكثير ولم أزد … شيئا وكم في النفس من أشياء
أرعى اتضاع أخي فأوجز والذي … يرضي تواضعه يسوء إخائي
إن البلاد أبا علي كابدت … وجدا عليك حرارة البرحاء
وزكا إلى محبوبها تحنانها … بتبغض الأحداث والأرزاء
لا بدع في إبدائها لك حبها … بنهاية الإبداع في الإبداء
فالمنجبات من الديار بطبعها … أحنى على أبنائها العظماء
ألقطر مهتز الجوانب غبطة … فيما دنا ونأى من الأرجاء
روي العطاش إلى اللقاء وأصبحوا … بعد الجوى في بهجة وصفاء
وبجانب الفسطاط حي موحش … هو موطن الموتى من الأحياء
فيه فؤاد لم يقر على الردى … لأبر أم عوجلت بقضاء
لاح الرجاء لها بأن تلقى ابنها … وقضت فجاء اليأس حين رجاء
أودى بها فرط السعادة عندما … شامت لطلعته بشير ضياء
لكنما عود الحبيب وعيده … ردا إليها الحس من إغفاء
ففؤادها يقظ له فرح به … وبفرقديه من أبر سماء
يرعى خطى حفدائها ويعيذيهم … في كل نقلة خطوة بدعاء
في رحمة الرحمن قري واشهدي … تمجيد أحمد فهو خير عزاء
ولأمه الكبرى وأمك قبله … خلي وليدك وارقدي بهناء
مصر بشوقي قد أقر مكانها … في الذروة الأدبية العصماء
هو أوحد الشرقين من متقارب … متكلم بالضاد أو متنائي
ما زال خلاقا لكل خريدة … تصبي الحليم بروعة وبهاء
كالبحر يهدي كل يوم درة … أزهى سنى من أختها الحسناء
قل للمشبه إن يشبه أحمدا … يوما بمعدود من الأدباء
من جال من أهل اليراع مجاله … في كل مضمار من الإنشاء
من صال في فلك الخيال مصاله … فأتى بكل سبية عذراء
أصحبته والنجم نصب عيونه … والشأو أوج القبة الزرقاء
يا حسنه شكرا من ابن مخلص … لأب هو المفدي بالآباء
أغلى على ماء اللآليء صافيا … ما فاض ثمة من مشوب الماء
أتهادت الأهرام وهي طروبة … لمديحه تهتز كالأفياء
فعذرت خفتها لشعر زادها … بجماله الباقي جمال بقاء
أنظرت كيف حبا الهياكل والدمى … بحلى تقلدها لغير فناء
فكأنها بعثت به أرواحها … ونجت بقوته من الإقواء
أتمثلت لك مصر في تصويره … بضفافها وجنانها الفيحاء
وبدا لوهمك من حلي نباتها … أثر بوشي بيانه مترائي
أسمعت شدو البلبل الصداح في … أيكاتها ومناحة الورقاء
فعجبت أني صاغ من تلك اللغى … كلمات إنشاد ولفظ غناء
لله يا شوقي بدائعك التي … لو عددت أربت على الإحصاء
من قال قبلك في رثاء نقسه … يجري دما ما قلت في الحمراء
في أرض أندلس وفي تاريخها … وغريب ما توحي إلى الغرباء
جاريت نفسك مبدعا فيها وفي … آثار مصر فظلت أوصف رائي
وبلغت شأو البحتري فصاحة … وشأوته معنى وجزل أداء
بل كنت أبلغ إذ تعارض وصفه … وتفوق بالتمثيل والإحياء
يا عبرة الدنيا كفانا ما مضى … من شأن أندلس مدى لبكاء
ما كان ذنب العرب ما فعلوا بها … حتى جلوا عنها أمر جلاء
خرجوا وهم خرس الخطى أكبادهم … حرى على غرناطة الغناء
ألفلك وهي العرش أمس لمجدهم … حملت جنازته على الدأماء
أوجزت حين بلغت ذكرى غبهم … إيجاز لا عي ولا إعياء
بعض السكوت يفوق كل بلاغة … في أنفس الفهمين والأرباء
ومن التناهي في الفصاحة تركها … والوقت وقت الخطبة الخرساء
قد سقتها للشرق درسا حافلا … بمواعظ الأموات للأحياء
هل تصلح الأقوام إلا مثلة … فدحت كتلك المثلة الشنعاء
غبرت وقائع لم تكن مستنشدا … فيها ولا اسمك ماليء الأنباء
لكن بوحيك فاه كل مفوه … وبرأيك استهدى أولو الآراء
هي أمة ألقيت في توحيدها … أسا فقام عليه خير بناء
وبذرت في أخلاقها وخلالها … أزكى البذور فآذنت بنماء
أما الرفاق فما عهدت ولاؤهم … بل زادهم ما ساء حسن ولاء
وشباب مصر يرون منك لهم أبا … ويرون منك بمنزل الأبناء
من قولك الحر الجريء تعلموا … نبرات تلك العزة القعساء
لا فضل إلا فضلهم فيما انتهى … أمر البلاد إليه بعد عناء
لم يثنهم يوم الذياد عن الحمى … ضن بأموال ولا بدماء
أبطال تفدية لقوا جهد الأذى … في الحق وامتنعوا من الإيذاء
سلمت مشيئتهم وما فيهم سوى … متقطعي الأوصال والأعضاء
إن العقيدة شيمة علوية … تصفو على الأكدار والأقذاء
تجني مفاخر من إهانات العدى … وتصيب إعزازا من الإزراء
بكر بأوج الحسن أغلى مهرها … شرف فليس غلاؤه بغلاء
أيضن عنها بالنفيس ودونها … يهب الحماة نفوسهم بسخاء
تلك القوافي الشاردات وهذه … آثارها في أنفس القراء
شوقي إخالك لم تقلها لاهيا … بالنظم أو متباهيا بذكاء
حب الحمى أملى عليك ضروبها … متأنقا ما شاء في الإملاء
أعظم بآيات الهوى إذ يرتقي … متجردا كالجوهر الوضاء
فيطهر الوجدان من أدرانه … ويزينه بسواطع الأضواء
ويعيد وجه الغيب غير محجب … ويرد خافية بغير خفاء
أرسلتها كلما بعيدات المدى … ترمي مراميها بلا إخطاء
بينا بدت وهي الرجوم إذ اغتدت … وهي النجوم خوالد اللالاء
ملأت قلوب الهائبين شجاعة … وهدت بصائر خابطي العشواء
من ذلك الروح الكبير وما به … يزدان نظمك من سنى وسناء
أعدد لقومك والزمان مهادن … ما يرتقون به ذرى العلياء
أليوم يومك إن مصر تقدمت … لمآلها بكرامة وإباء
فصغ الحلي لها وتوج رأسها … إذ تستقل بأنجم زهراء