ترحلت عن زمني عائدا – جبران خليل جبران

ترحلت عن زمني عائدا … خلال القرون إلى ما وراء

هياكل شيدها للخلود … نبوغ جبابرة أقوياء

فجسمي في دهره ماكث … وقلبي في أول الدهر ناء

أجلت بتلك الرسوم لحاظا … يغالب فيها السرور البكاء

فما ارتهن الطرف إلا مثال … عتيق الجمال جديد الرواء

مثال لإيزيس في صلده … تحس الحياة وتجري الدماء

يروعك من عطفه لينه … ويرويك من رونق الوجه ماء

به فجر الحسن من منبع … فيا عجبا للرمال الظماء

فتون الدلال وردع الجلال … وأمر الحياة ونهي الحياء

فأدركت كيف استبت عابديها … بسحر الجمال وسر الذكاء

وبث العيون شعاع النهى … يبيح السرائر من كل راء

لقد غبرت حقب لا تعد … يدول النعيم بها والشقاء

تزول البلاد وتفنى العباد … وإيزيس تزهو بغير ازدهاء

إذا انتابها الدهر ما زادها … وقد حسر الموج إلا جلاء

لبثت أفكر في شأنها … مطيفا بها هائما في العراء

فلما براني حر الضحى … وأدركني في الطواف العياء

أويت إلى السمح من ظلها … وفي ظلها الروح لي والشفاء

يجول بي الفكر كل مجال … إذا أقعد الجسم فرط العناء

فما أنا إلا وتلك الإلهة … ذات الجلالة والكبرياء

قد اهتز جانبها وانتحت … تخطر بين السنى والسناء

وترمقني بالعيون التي … تفيض محاجرها بالضياء

بتلك العيون التي لم تزل … يدان لعزتها من إباء

فما في الملوك سوى أعبد … وما في المليكات إلا إماء

وقالت بذاك الفم الكوثري … الذي رصعته نجوم السماء

أيا ناشد الحسن في كل فن … رصين المعاني مكين البناء

لقد جئت من آهلات الديار … تحج الجمال بهذا العراء

فلا يوحشنك فقد أنيس … سوى الذكر يعمر هذا الخلاء

وإن الرسوم لحال تحول … وللحسن دون الرسوم البقاء

له صور أبدا تستجد … وجوهره أبدا في صفاء

بكل زمان وكل مكان … ينوع في الشكل للأتقياء

فليس القديم وليس الحديث … لدى قدرة الله إلا سواء

رفعت لك الحجب المسدلات … وأبرحت عن ناظريك الخفاء

تيمم بفكرك أرضا لنا … بها صلة من قديم الإخاء

بلاد الشآم التي لم تزل … بلاد النوابغ والأنبياء

ففي سفح لبنان حورية … تفنن مبدعها ما يشاء

إذا ما بدت من خباء العفاف … كما تتجلى صباحا ذكاء

تبينتها وهي لي صورة … أعيدت إلى الخلق بعد العفاء

فتعرفها وبها حليتاي … سحر الجمال وسر الذكاء