بكيتَ فلم تترك لعيْنِكَ مدمعاً – ابن الرومي
بكيتَ فلم تترك لعيْنِكَ مدمعاً … زماناً طوى شرخَ الشباب فودّعا
سقى اللَّه أوطاراً لنا ومآرباً … تقطَّع من أقرانها ما تقطَّعا
لياليَ تُنْسيني الليالي حسابَها … بُلَهْنِيَة ٌ أقضي بها الحولَ أجمعا
سدى غِرَّة ٍ لا أعرفُ اليومَ باسمه … وأعمل فيه اللهو مرأى ً ومسمعا
إذ ما قضيتُ اليوم لم أبكِ عَهْدَه … وأخلفتُ أدنى منه ظِلاًّ وأفنعا
فأصبحتُ أقتصُّ العهود التي خلتْ … بآهة محقوقٍ بأن يتفجَّعا
أحِنُّ فأستسقي لها الغيثَ مرة ً … وأُثني فأستسقي لها العين أدمُعا
لأحسنتِ الأيامُ بيني وبينها … بديئاً وإن عفَّت على ذاك مَرْجعا
أعاذلُ أن أُعطي الزمان عِنانه … فقد كنتُ أُثْنِي منه رأساً وأخدعا
ليالي لو نازعتُه رجْعَ أمسِه … ثنى جيده طوعاً إليَّ ليرجعا
وقد أغتدي للطير والطير هُجَّعٌ … ولو أوْجستْ مَغْدايَ ما بتْن هُجَّعا
بِخلَّين تمَّا بي ثلاثة إخوة ٍ … جُسومُهمُ شتَّى وأرواحُهمْ معا
بني خلَّة ٍ لم يُفسد المَحْلُ بينهُمْ … ولا طمعَ الواشون في ذاكَ مطمعا
مطيعين أهواءً توافت على هوى ً … فلو أُرسِلتْ كالنبلِ لم تعدُ موقعا
تُجَلِّي عُيون الناظرين فجاءة ً … لنا منظراً مُرْوى ً من الحُسن مُشبعا
إذا ما رفعنا مُقبلين لمجلس … طلعنا جميعاً لا نُغادر مطلعا
كمنطقة ِ الجوزاءِ لاحت بسُحرة ٍ … بعقْبِ غمامٍ لائحٍ ثم أقشعا
إذا ما دعا منه خليلٌ خليله … بأفديك لبَّاه مجيباً فأسرعا
وإن هو ناداه سحيراً لدُلجة ٍ … تنبَّه نبهانَ الفؤاد سَرعْرعا
كأن له في كل عُضوٍ ومَفصِلٍ … وجارحة ٍ قلباً من الجمر أصمعا
فشمَّر للإدلاج حتى كأنما … تلُفُّ به الأرواح سمعاً سَمْعمعا
كأنِّي ما روَّحتُ صَحْبي عشيَّة … نُساجل مُخْضرَّ الجنابين مُترعا
إذا رنَّقتْ شمسُ الأصيل ونفَّضتْ … على الأفق الغربي ورساً مُذعذعا
وودَّعت الدنيا لتقضي نحْبها … وشوَّل باقي عمرها فتشعشعا
ولاحظتِ النُّوارَ وهي مريضة ٌ … وقد وضعتْ خدّاً إلى الأرض أضرعا
كما لاحظتْ عُوَّاده عينُ مُدنفٍ … توجَّع من أوصابه ما توجَّعا
وظلّتْ عيونُ النَّور تَخْضلُّ بالندى … كما اغرورقتْ عينُ الشَّجيِّ لتَدْمَعا
يُراعينها صُوراً إليها روانياً … ويلْحظنَ ألحاظاً من الشّجو خشَّعا
وبيَّن إغضاءُ الفِراقِ عليهما … كأنَّهما خِلاَّ صفاء تودَعا
وقد ضربتْ في خُضرة ِ الروض صُفرة ٌ … من الشمس فاخضرَّ اخضراراً مشعشعا
وأذكى نسيمَ الروضِ ريعانُ ظلِّه … وغنَّى مغنِّي الطير فيه فسجَّعا
وغرَّد رِبْعيُّ الذباب خلاله … كما حَثحثَ النشوانُ صَنْجاً مُشرَّعا
فكانتْ أرانينُ الذبابِ هناكُمُ … على شَدواتِ الطير ضرباً موقَّعا
وفاضتْ أحاديثُ الفكاهاتِ بيننا … كأحسنِ ما فاضَ الحديثُ وأمتعا
كأن جُفوني لم تبتْ ذاتَ ليلة ٍ … كراها قذاها لا تلائم مضجعا
كأنِّيَ ما نبَّهتُ صحبي لشأنهم … إذا ما ابنُ آوى آخرَ الليل وَعْوعا
فثاروا إلى آلاتهِمْ فتقلّدوا … خرائطَ حُمرا تحمل السُّمَّ مُنقَعا
منمَّقة ٌ ما استودعَ القومُ مثلها … ودائعَهُمْ إلا لكي لا تُضيَّعا
محمَّلة ٌ زاداً خفيفاً مَنَاطُهُ … من البُنْدق الموزُون قلَّ وأقنعا
نكيرٌ لئن كانتْ ودائعُ مِثلها … حقائبَ أمثالي ويذهبْنَ ضُيَّعا
علام إذاً توهي الحِمالة ُ عاتقي … وكان مصوناً أن يُذَالَ مُودِّعا
وما جشَمَتْني الطيرُ ما أنا جاشمٌ … بأسبابها إلا ليجْشمن مُضلِعا
فَلِلَّهِ عينا من رآهم وفد غَدَوْا … مُزبين مشهوراً من الزَّيِّ أرْوعا
إذا نبضوا أوتارهم فتجاوبَتْ … لها زَفَراتٌ تصرعُ الطير خَوْلعا
كأنَّ دَويَّ النحلِ أحرى دويَّها … إذا ما حفيفُ الريح أوْعاه مَسمعا
هنالك تغدو الطيرُ ترتاد مصرعاً … وحُسبانُها المكذوبُ يَرتاد مرتعا
وللَّه عينا من رآهُمْ إذا انتهوا … إلى موقف المَرْمى فأقبلْن نُزَّعا
وقد وقفوا للحائناتِ وشمَّروا … لهنَّ إلى الأنصافِ سُوقاً وأذرعا
وظلُّوا كأن الريحَ تَزْفِي عليهمُ … بها قَزَعاً ملءَ السماء مقزَّعا
وقد أغلقوا عقد الثلاثين منهُمُ … بِمجدولة ِ الأقفاءِ جدلاً موشَّعا
وجدَّتْ قِسِيُّ القوم في الطير جِدَّها … فظلَّتْ سجوداً للرُّماة ِ ورُكَّعا
هنالِكَ تلقَى الطَّيرُ ما طَيَّرتْ به … على كل شعبٍ جامعٍ فتصدَّعا
وتُعقَب بالبين الذي برَّحتْ به … لكل مُحِبٍّ كانَ منها مُروَّعا
فظلَّ صحابي ناعمين ببؤسها … وظلَّتْ على حوض المنيَّة شُرَّعا
فلو أبصرتْ عيناك يوماً مُقامنا … رأيتَ له من حُلَّة الطير أمْرعا
طرائحَ من سُودٍ بيض نواصعٍ … تَخَالُ أديمَ الأرض منهن أبقعا
نُؤلِّف منها بين شتى وإنما … نشتَّت من ألاّفها ما تجمعا
فكم ظاعنٍ منهن مُزِمِعِ رحلة ٍ … قَصرْنا نَواه دون ما كان أزمعا
وكم قادمٍ منهن مرتادِ منزل … أناخَ به مِنَّا مُنيخٌ فجعجعا
كأن لُبابَ التِّبر عند انتضائها … جرى ماؤه في لِيطها فَتريَّعا
تراك إذا أَلقيتَ عنها بَنَاتِها … سَفَرْتَ به عن وجه عذراء بُرقعا
كأن قَراها والفرُوزَ التي به … وإن لم تجدها العينُ إلا تتبعا
مَزرُّ سحيقِ الورْسِ فوق صلاءة ٍ … أدبَّ عليها دارجُ الذرِّ أكرعا
لها أولٌ طوعُ اليدين وآخرٌ … إذا سُمته الإغراقَ فيها تَمنَّعا
تدين لمقرونٍ أمرَّتْ مريرَهُ … عجوزٌ صناعٌ لم تدع فيه مَصْنَعا
تأيَّتْ صميم المتن حتى إذا انتهى … رِضاها أمرَّته مَرائر أربعا
تَلذَّ قرينيه عقودٌ كأنها … رؤوس مدارَى ما أشدَّ وأوكعا
ولا عيبَ فيها غير أن نذيرَها … يروع قلوبَ الطيرِ حتى تَصعصعا
على أنها مكفولة ُ الرزق ثَقْفة ٌ … وإن راع منها ما يروع وأفزعا
مُتاحٌ لراميها الرمايا كأنما … دعاها له داعي المنايا فأسمعا
تؤوب بها قد أمتعتك وغادرتْ … من الطير مفجوعاً به ومُفجَّعا
لها عولة ٌ أولَى بها ما تُصيبُه … وأجدرَ بالإعوال من كان موجَعا
وما ذاك إلا زجرُها لبناتها … مخافة َ أن يذهبن في الجوِّ ضُيَّعا
فيخرجن حَيْناً حائناً ما انتحينَه … وإن تَخذ التسبيحُ منهن مَفْزعا
تقلبُ نحو الطير عيناً بصيرة ً … كعينكَ بل أذكى ذكاء وأسرعا
مربعة ً مقسومة ً بشباكها … كتمثال بيت الوشْي حيك مُربَّعا
لإبدائها في الجو عندَ طحيرها … عجاريفَ لو مَرَّتْ بطودٍ تزعزعا
تقاذفُ عنها كلُّ ملساءَ حدرة ٍ … تمر مروراً بالقضاء مشيَّعا
أمونٍ من العظعاظ عند مروقها … وإن عارَضَتْها الريحُ نكباء زعزعا
يحاذرها العفريتُ عند انصلاتها … فيُعْجله الإشفاقُ أن يتسمَّعا
تقول إذا راع الرميِّ حفيفُها … رويدك لا تجزعْ من الموت مجزعا
فإن أخطأته استوْهلتهُ لأختها … فَتلْحَقُه الأخرى مَروعاً مُفزَّعا
وإن ثقفَتْه أنفذته وقدّرتْ … له ما يوازيه من الأرض مصرعا
فيقضي المُذكِّي في الصريع قضاءهُ … وهاتيك يأبى غرْبُها أن تُورَّعا
أتتْ ما أتتْ من كيدها ثم صمَّمت … تدرُّ دريراً يخطفُ الطير ميْلعا
كأن بنات الماءِ في صرح مَتْنه … إذا ما علا رَوْقُ الضحى فترفَّعا
زاربيُّ كسرى بثَّها في صِحانِه … ليُحضرَ وفداً أو ليجمع مَجمعا
تُريك ربيعاً في خريفٍ وروضة ً … على لجَّة ٍ بدعاً من الأمر مُبدعا
تخايلُ فوق الماء زهواً كما زهت … عوائدُ عيدٍ ما ائتلين تصنُّعا
تلبَّسُ أصنافاً من البزِّ خلعة … حريراً وديباجاً وريْطاً مُقطَّعا
فبيْن خُيابوذٍ زهته شياته … فزيَّنه ريشٌ تراه موزَّعا
يمدُّ إليه حسنُه وجمالهُ … خلال بناتِ الماء عيناً وإصبعا
وأخضرَ كالطاووسِ يُحسبُ رأْسهُ … بخضراءَ من حُرِّ الحرير مقنَّعا
يتيه بمنقارٍ عليه حبائلٌ … تخيَّلن في ضاحيه جَزْعاً مجزَّعا
يلُوح على إسطامه وشيُ صُفرة ٍ … ترقَّش منها متْنُه فتلمَّعا
كملعقة ِ الصِّينيِّ أخْدَمَها يداً … صَناعاً وإن كانت يدُ اللَّه أصنعا
وعينين حمراوين يطرفُ عنهما … كأن حجاجيه بفصَّين رصِّعا
ومن أعقفٍ أحذاه مِنقارُهُ اسمه … أضَدَّ بديعُ الخلقِ فيه فأبدعا
مزينٌ بسربالٍ من الريشِ ناصعٍ … له زِبرجٌ يحكي الثَّغامَ المترَّعا
مشينَ بجيدٍ ذي سوادٍ وزُعرة ٍ … ورأْسٍ شبيه الجيد أسودَ أقرعا
مطرَّفُ أطرافِ الجناحِ كأنَّه … بنانُ عروسٍ بالخضابِ تقمَّعا