الحياة – إبراهيم ناجي

جلستُ يوماً حين حلَّ المساءْ … وقد مضى يومي بلا مؤنسِ

أريح أقداماً وهتْ من عياءْ … وأرقب العالَم من مجلسي

أرقبه يا كَدّ هذا الرقيب … في طيب الكون وفي باطلهْ

وما يبالي ذا الخضم العجيبْ … بناظر يرقب في ساحلهْ

سيان ما أجهل أو أعلم … من غامض الليل ولغز النهارْ

سيستمر المسرح الأعظم … روايةً طالت وأين الستار

عييتُ بالدنيا وأسرارها … وما احتيالي في صموت الرمالْ

أنشد في رائع أنوارها … رشداً فما أغنم إلا الضلالْ

أغمضت عيني دونها خائفاً … مبتغياً لي رحمة في الظلامْ

فصاح بي صائحها هاتفاً … كأنما يوقظني من منامْ:

أنت امرؤٌ ترزح تحت الضنى … لم يبق منك الدهر إلا عنادْ

وكل ما تبصره من سنا … يهزأ بالجذوة خلف الرمادْ

وكل ما تبصره من قوى … تدوي دويّ الريح عند الهبوبْ

يسخر من مبتئس قد ثوى … يرنو إلى الدنيا بعين الغروبْ

انظر إلى شتى معاني الجمالْ … منبثة في الأرض أو في السماءْ

ألا ترى في كل هذا الجلال … غير نذيرٍ طالعٍ بالفناءْ

كم غادة بين الصبا والشبابْ … تأنقّ الصانع في صنعها

تخطر والأنظار تحدو الركاب … ولفظة الاعجاب في سمعها

وربما سار إلى جنبها … مدّله ليس يبالي الرقيبْ

يمشي شديد العجب في قربها … إذا راح يوليها ذراع الحبيبْ

وانظر إلى سيارة كالأجل … تخطف خطفاً لا تُبالي الزحامْ

هذا الردى الجاري اختراع الرجلْ … هل بعد صنع الموت شيءٌ يُرامْ

وانظر إلى هذا القويّ الجسدْ … الباتر العزم الشديد الكفاحْ

قد أقبل الليل فحيّ الجلد … في رجل يدأب منذ الصباحْ

أجبت: يا دنياي من تخدعين؟ … إني امرؤٌ ضاق بهذا الخداعْ

مزّقتِ عن عيشي . هنيّ السنين … لأنني مزقتُ عنكِ القناعْ

إن الجمالَ الساحرَ الفاتنا … يا ويحه حين تغير الغضونْ

ويعبثُ الدهر بحلو الجنى … وتستر الصبغة إثم السنينْ

وهذه السيارة العاتيهْ … وربما الجبار كالبرق سارْ

ما هي إلا شُعَلٌ فانيهْ … نصيبها مثل شعاع النهارْ

وارحمتاه للقويِّ الصبورْ … يقضي الليالي في كفاحٍ سخيفْ

وكيف لا أبكي لكدح الفقيرْ … أقصى مناه أن ينال الرغيفْ

كم صحتُ إذا أبصرت هذا الجهادْ … وميسم الذلة فوق الجباهْ

يا حسرتا ماذا يلاقي العبادْ … أكُلُّ هذا في سبيل الحياهْ؟

وفي سبيل الزاد والمأكل … نملأ صدر الأرض إعوالا

كم يسخر النجمُ بنا مِن عل … وكم يرانا الله أطفالا

يا ربِّ غفرانك إنا صِغارْ … ندبّ في الدنيا دبيبَ الغرورْ

نسحب في الأرض ذيولَ الصغارْ … والشيبُ تأديبٌ لنا والقبورْ