التذكار – إبراهيم ناجي

بي نزوعً إِلى الدموعِ الهوامي … غير أني أخافُ من آلامي

أيهذا المكان يا غالي الترب … ومثوى عبادتي واحترامي

أنت مثوى الذكرى ومدفنُها الغا … لي القصيُّ المجهولُ في الأيام

هذه خلوتي فلا تمنعوني … ما الذي تحذرون يا خلاني

انها عادتي التي كنت أعتادُ … وأهوى في سالفِ الأزمانِ

أخذتني لذِي الرحاب وقادت … قدمي في سبيلِ هذا المكان

أنظروا هذه السفوحَ وهذا النبتَ … إذ قام مزهراً تيّاها

لكأني ما زلتُ تسمع أذني … في صموتِ الرمالِ وقع خطاها

وكأن النجوى بكل ممرٍّ … طوقتني في سترهِ يمناها

قد تراءى الصنوير النضر إذ أينع … في قاتمٍ من الألوانِ

وتراءَى ليَ المضيقُ البعيدُ … الغور يمتدُّ في رخيّ المجاني

موحشات لكنما كن آلا … في ومهد الهنيء من أزماني

أنا ما جئتَ ها هنا أذكر الأشجانَ … في موطنٍ عرفت فيه هنائي

ذلك الغاب رائع الحسن والصمت … مثال الجلال والكبرياءِ

وفؤادي عاتٍ كرائعِ هذا الغابِ … مستكبرٌ على البرحاءِ

من يشأ أن يفيضَ يوماً بشكواه … فما هذا موضع الأحزان

قل لشاكٍ هلاَّ مضيت لتجثو … عند مثوى ميت من الخلان

كل شيء حيٌّ هنا وباتُ القبرِ … ينمو في غيرِ هذا المكان

طلع البدرُ يرتقي ذروةَ الأُفقِ … ويجتازُ حالكَ الأسدادِ

يا أمير الظلام إِنك تبدو … حائرَ الرأي، واضحَ التردادِ

ثم تمضي مجاوزاً حجبَ الليلِ … وترمي بنوِرك الوقَّادِ

كلّما شارف الثرى فيض نورٍ … مرسلٍ من جبيِنك الوضّاحِ

وإِذا الأرض قد تضوَّعَ منها … عن ثراها النديِّ عطرُ الصباحِ

استشرت عطرَ القديمِ من الحبِّ … دفين العبيرِ في الأرواح

أيهذا الوادي المجبب ما زرتك … حتى سألت عن أوصابي

إيْن راحت لواعجي أيْن آلامي … اللواتي أهزمنَنِي في الشباب

عاودتني طفولتي فيك حتى … خلتُ أني ما اجتزتُ يومَ عذاب

يا خفاف السنين يا صولة الدهرِ … قويّاً مثل الجبابرِ عاتي

كل ماضي صبابة قد أخذتن … فمن مدمعٍ ومن حسراتِ

ورحمتنَّ لي أزاهر ذكرى … علقتْ في ذبولها بالحياةِ

فسلام مني على الأيامِ … كيف آستْ في النازلاتِ الجسامِ

لم أكن أدرِي أن جرحاً بما كابدتُ … منه من فاتك الآلامِ

معقبٌ لذةً لنفسي واحساسَ … هناءٍ لديَّ بعد التئامِ

فليبْن عنيَ السخيفُ من الرأيِ … وتنأَى سفاسفُ الأقوالِ

وهمومٌ كواذبٌ كفنت أثْوابٌها … حُبَّ عاشقين ضآلِ

جعلوها مظاهراً لهواهم … والهوى الحقُّ ليس منهم ببالِ

ايه دانتي أأنت ذاك الذي قال … قديماً عن ذكرياتِ الهناء:

انها إن مرَّت على ذاكريها … زمن الحزن فهي أشقى الشقاء

أي بؤسي أملت عليك مرير القولِ … حقّاً أسأت للبأساءِ

أو إنْ أقبل الدجى بعد ادبارِ … نهارٍ صافي الضياء قضيتَهْ

تنكرُ النورَ في الوجودِ فيغدو … محضَّ وهمٍ كأنه ما رأيتَهْ

ذلك القول وهو جدّ عجيب … أيها الخالد الأسى كيف قلتَهْ

قسماً بالطهورِ من لهب الحبِ … مضيئاً في القلب شبه المنارِ

ما عهِدْنا في قلبك الوافر الإيمـ … ـانِ هذا الظلال في الأفكارِ

لا أرى للهناءِ والله صدقاً … مثل صدقِ الهناءِ بالتذكارِ

أو إنْ أبصرَ الشقيُّ وميضاً … في رمادِ الهوى فقام إليهِ

باسطاً نحوَه يديهِ بلهفٍ … حارصاً أن يمرَّ من كفَّيهِ

وبه من إشعاعهِ أثرُ البرقِ … إذا مرّ خاطفاً ناظريه

أو إن غاصت روحهُ في عبابِ الذ … كريات التي طوتها السنينْ

أو هذا السرور من ذِكرِ الماضي … تسميه بالعذابِ المبين

ان تروى أدمعي فلا تزجروني … ودعوني اني أحب الدموعَا

لا تجفف ايديكمُ أدمعاً تنفعُ … قلباً لمّا يزلْ موجوعا

أدمعي سترٌ مسبلٌ فوق ماضٍ … قد تولى ما يستطيع رجوعا