أخذتْ نعشكِ مصرُ باليمينْ – أحمد شوقي
أخذتْ نعشكِ مصرُ باليمينْ … وحوته من يد الرُّوح الأمينْ
لَقِيَتْ طُهْرَ بَقاياكِ كما … لَقِيَتْ يَثْرِبُ أُمَّ المؤمنين
في سواديها، وفي أحشائها … ووراءِ النَّحر من حبلِ الوتين
خرَجَتْ من قصرِكِ الباكي، إلى … رملة ِ الثغر، إلى القصرِ الحزين
أخذتْ بينَ اليتامى مذهباً … ومَشتْ في عَبَراتِ البائسين
ورَمتْ طَرْفاً إلى البحرِ ترى … من وراء الدمعِ أسرابَ السفين
فبدتْ جارية ٌ في حضنها … فننُ الوردِ وفرغُ الياسمين
وعلى جُؤْجُئِها نورُ الهدى … وعلى سكَّانها نورُ اليقين
حملتْ من شاطئي مرمرة ٍ … جوهرَ السُّؤددِ والكنزَ الثمين
وطَوَتْ بحراً ببحرٍ، وجَرَت … في الأحاج الملحِ بالعذب المعين
واستقلتْ درة ً كانت سنى … وسناءً في جباه المالكين
ذهَبَتْ عن عِلْيَة ٍ صِيدٍ، وعن … خرَّدٍ من خفزات البيتِ عين
والتقياتُ بناتُ المتقي … والآميناتُ بنيَّاتُ الأمين
لبستْ في مطلعِ العزِّ الضُّحى … ونضته كالشموس الآفلين
يدها بانية ٌ غارسة ٌ … كَيدِ الشمسِ وإن غاب الجبين
رَبّة العَرشَيْنِ في دولتها … قد رَكِبْتِ اليومَ عرشَ العالَمين
أُضْجِعَتْ قبلَكِ فيه مريمٌ … وتوارى بنساء المرسلين
إنه رحلُ الأواني شدَّهُ … لهمُ آدمُ رسلِ الآخرين
إخْلَعي الأَلقابَ إلا لقباً … عبقرياً، هو أمُّ المحسنين
ودَعِي المالَ يَسِرْ سُنَّتَه … يمضِ عن قومٍ لأيدي آخرين
واقْذِفي بالهمّ في وَجه الثَّرى … واطرحي من حالقٍ عبءَ السنين
واسخري من شانِىء ٍ أَو شامتٍ … ليس بالمخطيءِ يومُ الشامتين
وتعزّي عن عوادي دولة ٍ … لم تَدُمْ في وَلَدٍ أَو في قَرين
وازهدِي في موكبٍ لو شِئتِه … لتغطّى وَجهُها بالدارعين
ما الذي ردَّ على أصحابه؟ … ليس يُحيي مَوكبُ الدّفنِ الدفين
رُبَّ محمولٍ على المِدفع ما … مَنَعَ الحَوْضَ، ولا حاط العَرين
باطلٌ من أُممٍ مَخدوعة ٍ … يَتحدَّوْنَ به الحقَّ المبين
في فروقٍ وربها مأتمٌ … ذرفتْ آماقها فيه العيون
قام فيها، من عَقِيلات الحِمى … مَلأٌ بُدِّلْنَ مِنْ عِزٍّ بهُون
أُسَرٌ مالت بها الدنيا، فلم … تَلْقَ إلا عندكِ الركنَ الركين
قد جلا بيبكُ من حاتمه … ومن الكاسين فيه الطاعمين
طارت النعمة ُ عن أيكته … وانقضى ما كان من خَفضٍ ولِين
اليتامى نوحٌ ناحية ً … والمساكينُ يمدُّونَ الرنين
دولة ٌ مالت، وسُلطانٌ خلا … دوولتْ نعماهُ بينَ الأقربين
مُنهضُ الشرقِ عَليٌّ لم يزل … من بينه سيِّدٌ في عابدين
يصلحُ اللهُ به ما أفسدتْ … فَتَرَاتُ الدهر من دنيا ودين
أمَّ عباسٍ، ومالي لم أقلْ: … أمَّ مصرٍ من بناتٍ وبنين؟
كنتِ كالورد لهم، واستقبلوا … دولة َ الرَّيْحانِ حيناً بعدَ حِين
فيقال: الأُمُّ في موكبها … ويقالُ: الحرمُ العالي المصون
العفيفيُّ عفافٌ وهُدى ً … كالبقيعِ الطُّهرِ ضمّ الطاهرين
ادخلي الجنّة من رَوْضتِه … إنّ فيها غرفة ً للصابرين