أحقُّ أنهم دفنوا عليَّا – أحمد شوقي

أحقُّ أنهم دفنوا عليَّا … وحطُّوا في الثرى المرءَ الزكيّا؟

فما تركوا من الأَخلاق سَمْحاً … على وجه التراب، ولا رضيَّا؟

مضوا بالضاحك الماضي وألقوا … إلى الحُفَر الخَفيفَ السَّمْهَرِيَّا

فَمَنْ عَوْنُ اللغاتِ على مُلِمٍّ … أصاب فصيحها والأعجميَّا؟

لقد فقدتْ مصرفها حنيناً … وبات مكانُه منها خَلِيَّا

ومن ينظرْ يرَ الفسطاطَ تبكي … بفائضة ٍ من العَبَرَاتِ رِيَّا

أَلم يَمْشِ الثرى قِحَة ً عليها … وكان رِكابُها نحوَ الثُّرَيّا؟

فنَقَّبَ عن مواضعها عَلِيٌّ … فجَدَّدَ دارساً، وجَلا خَفِيّا

ولولا جُهْدُهُ احتجَبَتْ رُسوماً … فلا دمناً تريكَ لا نؤيَّا

تلفَّتَتِ الفنونُ وقد تَوَلَّى … فلم تجد النصيرَ ولا الوليّا

سَلوا الآثارَ: مَنْ يَغدو يُغالي … بها، ويروحُ مُحتفِظاً حَفِيَّا؟

ويُنْزِلُها الرُّفوفَ كجوهريٍّ … يصففُ في خزائنها الحليَّا؟

وما جهلَ العتيقَ الحرَّ منها … ولا غَبِيَ المُقَلّدَ والدَّعِيَّا

فتى ً عاف المشاربَ من دنايا … وصان عن القَذَى ماءَ المُحَيَّا

أبيُّ النفسِ في زمنٍ إذا ما … عَجَمْتَ بنيهِ لم تجِدِ الأَبِيَّا

تعوّدَ أن يراه الناس رأساً … وليس يرونه الذنبَ الدنيَّا

وَجَدْتُ العلمَ لا يبني نُفُوساً … ولا يغني عن الأخلاقِ شيَّا

ولم أَر في السلاح أَضلَّ حَدّاً … مِنَ الأَخلاق إنْ صَحِبَتْ غَوِيَّا

همَا كالسيف، لا تنصفهُ يفسدْ … عليكَ، وخُذْهُ مُكتمِلاً سَوِيَّا

غديرٌ أَترعَ الأَوطانَ خيراً … وإن لم تمتلىء منه دويَّا

وقد تأتي الجداولُ في خشوعٍ … بما قد يعجزُ السَّيلَ الأتيَّا

حياة ُ مُعَلِّمٍ طفِئَتْ، وكانتْ … سراجاً يعجبُ الساري وضيَّا

سبقتُ القابسين إلى سَناها … ورحتُ بنورها أحبو صبيَّا

أخذتُ على أريبٍ ألمعيٍّ … ومَنْ لكَ بالمعلِّم أَلْمَعِيَّا؟

ورب معلِّمٍ تلقاه فظَّا … غليظ القلبِ أَو فَدْماً غَبيّا

إذا انتدب البنون لها سيوفاً … من الميلاد ردَّهُمُ عِصيَّا

إذا رشد المعلمُ خلوا وفاقوا … إلى الحرية کنساقُوا هديَّا

أناروا ظلمة َ الدنيا، وكانوا … وإن هو ضَلَّ كان السامِريَّا

أرقتُ وما نسيتُ بناتِ يومٍ … على «المطريّة » کندَفعَتْ بُكيّا

بكَتْ وتأَوَّهَتْ، فَوَهِمْتُ شَرّاً … وقبلي داخل الوهمُ الذَّكيا

قلبتُ لها الحذيَّ، وكان مني … ضلالاً أَن قلبتُ لها الحذيَّا

زعمتُ الغيبَ خلفَ لسانِ طيرٍ … جَهِلْتُ لسانَه فزعَمْتُ غيّا

أصاب الغيبَ عند الطير قومٌ … وصار البومُ بينهم نَبيّا

إذا غَنّاهمُ وجدوا سَطِيحاً … على فمه، وأفعى الجرهميَّا

رمى الغربانُ شيخَ تَنُوخَ قبلي … وراش من الطويل لها دَوِيَّا

نجا من ناجذيْهِ كلُّ لحمٍ … وغُودِرَ لحمهُنَّ به شَقِيَّا

نَعَسْتُ فما وجدتُ الغَمْضَ حتى … نَفَضْتُ على المَنَاحَة ِ مُقْلَتَيّا

فقلتُ: نذيرة ٌ وبلاغُ صدق … وحقٌّ لم يفاجىء مسمعيَّا

ولكنَّ الذي بكتِ البواكي … خليلٌ عزَّ مصرعه عليَّا

ومَن يُفجَعْ بِحُرٍّ عبقريٍّ … يجدْ ظلمَ المنيّة ِ عبقريَّا

ومن تَتراخَ مُدَّتُه فيُكثِرْ … من الأَحبابِ لا يُحْصِي النَّعِيَّا

أخي، أقبلْ عليَّ من المنايا … وهاتِ حديثك العذبَ الشهيَّا

فلم أَعدِم إذا ما الدُّورُ نامت … سميراً بالمقابر أَو نَجِيّا

يُذكِّرني الدُّجَى لِدَة ً حَمِيماً … هنالكَ باتَ، أو خلاًّ وفيَّا

نَشَدْتُكَ بالمنيّة وهْيَ حقٌّ … أَلم يَكُ زُخْرُفُ الدنيا فَرِيَّا

عَرفْتَ الموتَ معنى ً بعد لفظٍ … تكَّلمْ، وأكشفِ المعنى الخبيَّا

أتاك من الحياة الموتُ فانظرْ … أَكنتَ تموت لو لم تُلْفَ حَيَّا؟

وللأشياءِ أضدادٌ إليها … تصير إذا صَبَرْتَ لها مَليَّا

ومنقلبُ النجومِ إلى سكونِ … من الدَّوَرانِ يَطويهنّ طيَّا

فخبِّرني عن الماضين؛ إني … شددتُ الرحلَ أنتظرُ المضيَّا

وصفْ لي منزلاً حملوا إليه … وما لمحوا الطريقَ ولا المُطِيّا

وكيف أَتى الغنيُّ له فقيراً … وكيف ثوى الفقير به غنيَّا؟

لقد لَبِسوا له الأَزياءَ شتَّى … فلم يقبل سوى التَّجريدِ زِيَّا

سواءٌ فيه مَنْ وافى نهاراً … ومنْ قذف اليهودُ به عشيَّا

ومنْ قطع الحياة صداً وجوعاً … ومنْ مرتْ به شبعاً وريَّا

ومَيْتٌ ضَجَّتِ الدنيا عليه … وآخرُ ما تحسنُّ له نعيَّا