أبعد الشباب المنتضى في الذوائب – البحتري
أبَعْدَ الَشبابِ، المُنتَضَى في الذّوَائِبِ، … أُحَاوِلُ لُطْفَ الوُدّ عندَ الكَواعِبِ
وَكَانَ بَيَاضُ الرأس شَخصاً مُذَمّما … إلى كُلّ بَيضَاءِ الحَشا والتّرَائِبِ
وما انفَكّ رَسْمُ الدّارِ حتّى تَهَلّلَتْ … دُمُوعي، وَحَتّى أكثَرَ اللّوْمَ صَاحبي
وَقَفْنا فَلاَ الأطْلاَلُ رَدّتْ إجَابَةً، … ولاَ العَذْلُ أجدى في المَشوقِ المُخاطِبِ
تَمَادَتْ عَقَابيلُ الهَوَى، وَتَطَاوَلَتْ … لَجَاجَةُ مَعْتُوبٍ عَلَيْهِ وَعَاتِبِ
إذا قُلْتُ: قَضّيتُ الصّبَابَةَ، رَدَّهَا … خَيَالٌ مُلِمٌّ مِنْ حَبِيبٍ مُجَانِبِ
يَجُودُ، وَقد ضَنّ الألى شَغَفي بهمْ، … وَيَدنو، وقد شَطّتْ دِيَارُ الحَبَائِبِ
تُرِينيكَ أحْلامُ النّيامِ، وَبَيْنَنَا … مَفَاوِزُ يَستَفرِغنَ جُهْدَ الرّكائبِ
لَبِسْنا، مِنَ المُعْتَزّ بالله، نِعْمَةً … هيَ الرّوضُ مَوْليّاً بِغُزْرِ السّحائبِ
أقَامَ قَنَاةَ الدّينِ، بَعدَ اعوِجَاجِها، … وأرْبَى على شَغْبِ العدوّ المُشاغِبِ
أخو الحزْمِ قد ساسَ الأمورَ وَهذّبَتْ … بَصِيرَتُهُ فيها صُرُوفَ النّوَائِبِ
وَمُعْتَصِميُّ العَزْمِ يَأوِي بِرَأيِهِ … إلى سَنَنٍ مِنْ مُحكِمَاتِ التّجارِبِ
تُفَضّلُهُ آيُ الكِتَابِ، وَيَنْتَهي … إلَيْهِ تُرَاثُ الغُلْبِ مِنْ آلِ غَالِبِ
تَوَلّتْهُ أسْرَارُ الصّدُورِ، وأقْبَلَتْ … إلَيْهِ القُلُوبُ مِنْ مُحِبٍّ وَرَاغِبِ
وَرُدّتْ، وَمَا كَانَتْ تُرَدُّ بِعَدْلِهِ، … ظُلاماتُ قَوْمٍ، مُظلِمَاتُ المَطَالِبِ
إمَامُ هُدًى عَمَّ البَرِيةَ عَدْلُهُ، … فأضْحَى لَدَيْهِ آمِناً كُلُّ رَاهِبِ
تَدارَكَ، بَعْدَ الله، أنْفُسَ مَعْشَرٍ، … أطَلّتْ على حَتْمٍ مِنَ المَوْتِ وَاجِبِ
وَقَالَ لَعاً للعاثِرِينَ، وَقَدْ رَأى … وثوبَ رِجَالٍ فَرّطُوا في العَوَاقِبِ
تَجَافَى لهمْ عَنها، وَلَوْ كَانَ غَيرُهُ … لَعَنّفَ بالتّثْرِيبِ، إنْ لم يُعَاقِبِ
وَهَبْتَ عَزِيزَاتِ النّفُوسِ لمَعْشَرٍ … يَعُدُّونَها أقصَى اللُّهَى، والمَوَاهِبِ
وَلَوْلا تَلاَفيكَ الخِلاَفَةَ لانبَرَتْ … لها هِمَمُ الغَاوِينَ مِنْ كُلّ جانبِ
إذاً لادّعاها الأبْعَدُونَ، وَلارْتَقَتْ … إلَيْها أمَانيُّ الظُّنُونِ الكَواذِبِ
زَمَانَ تَهَاوَى النّاسُ في لَيْلِ فِتْنَةٍ، … رَبُوضِ النّوَاحي، مُدلهمِّ الغَيَاهبِ
دَعَاكَ بَنُو العَبّاسِ ثَمّ، فأسْرَعتْ … إجَابَةُ مُسْتَوْلٍ على المُلْكِ غالبِ
وَهَزّوكَ للأمْرِ الجَليلِ، فلَمْ تكُنْ … ضَعيفَ القُوَى فيهِ كَليلَ المَضَارِبِ
فَما زِلْتَ حتّى أذْعَنَ الشّرْقُ عَنْوَةً، … وَدانَتْ على صِغْرٍ أعَالي المَغَارِبِ
جيُوشٌ مَلأنَ الأرْضَ حتّى ترَكْنَها … وَمَا في أقَاصِيها مَفَرٌّ لِهَارِبِ
مَدَدْنَ وَرَاءَ الكَوْكَبيّ عَجَاجَةً، … أرَتْهُ نَهَاراً طَالِعَاتِ الكَوَاكِبِ
وَزَعْزَعْنَ دَنبَاوَنْدَ منْ كلّ وِجْهَةٍ، … وَكَانَ وَقُوراً مُطمَئِنَّ الجَوَانِبِ
وَقَدْ أفِنَ الصّفّارُ، حتّى تَطَلّعتْ … إلَيْهِ المَنَايَا في القَنَا والقَوَاضِبِ
حَنَوْتَ عَلَيْهِ بَعدَ أنْ أشرَفَ الرّدَى … على نَفْسِ مُزْوَرٍّ عنِ الحَقّ ناكِبِ
تأنّيْتَهُ حتّى تَبَيّنَ رُشْدَهُ، … وَحَتّى اكتَفَى بالكُتبِ دونَ الكَتَائِبِ
بِلُطْفِ تأتٍّ مِنْكَ ما زَالَ ضَامِناً … لَنَا طَاعَةَ العَاصِي، وَسِلمَ المُحَارِبِ
فَعَادَ حُساماً عَنْ وَلِيّكَ ذَبُّهُ، … وَحَدَّ سِنَانٍ في عدُوّكَ نَاشِبِ
بَقيتَ، أميرَ المُؤمِنينَ، مُؤمَّلاً … لغَفْرِ الخَطَايَا، واصْطِنَاعِ الرّغَائِبِ
ومليت، عبد الله من ذي تطول … كريم السجايا هبرزي الضرائب
شَبيهُكَ في كلّ الأُمُورِ، وَلَنْ تَرَى … شَبيهَكَ إلاّ جَامِعاً للمَنَاقِبِ
أُؤمّلُ جَدْوَاهُ، وأرْجو نَوَالَهُ، … وَمَا الآمِلُ الرّاجي نَداهُ بِخَائِبِ