وكأني نحلة لا عاصفة – محمد القيسي

أو تحلم ؟

أحلم أن أكتب شيئا ما،

عن عينين مهاجرتين إليّ أصقاع الأرض

أسافر في عمقهما

نحو بساتين بلاد أثقلها الأبناء بأوزار الغربة ،

أقرأ أسماء نباتات

وأرى في البحر عذاب البحر ،

ولكنَّي أحمل مرساة وأقول :

أراك غدا ذات نهار جبليًّ يتوزّع بالعدل ،

ولا تعلن أطيار البحر المتغرَّب عن موعد ،

أسفاري

فأروح إلى زاوية معتمة يسترها الضوء ،

يزيَّنها الأسف الغلاَّب ،

وأسأل عن كلمات للبدء ،

ولا أبدأ إلا بيدين ملوَّحتين ،

على شرفات البين ،

كطيرين وحيدين ،

تفرُّ الكلمات تفرُّ تفرُّ إلى الداخل ،

أرسم نافذة للبحر .

أطالب بالألعاب المنفيَّة عن مدن الأطفال ،

أحاول أن أملك شيئا ما ،

قبَّعة ،

أو عصفورا ،

أو تذكرة ،

في أول طائرة نحو براري الموت ،

عرفت كثيرا ولذا أصمت ،

آن لقلبي أن يبدأ بالأهداب ،

ويحمل زوَّادة أمّي السريَّة ،

في هذا الدرب الوحشيَّ ويمشي ،

يمشي ، عشَّاق الأرصفة انتشروا ..

خاصرة الوقت تميل إلى جبل من وجع الشارع ،

هل أقرأ في هذا الوجه دما وطريقا .

أين أرى وجهي الأول ،

أين سأعقد ساريتي .

قدّامي الصحراء ،

وقدّامي زهر الصحراء ،

وقدّامي الهمُّ الصحراويُّ ،

فما هذا الشارع ..

تاريخ للوحشة والسفر التائه والكلمات المرّة

هذا الشارع يتفرّع من شجر الأجساد الجوَّالة ،

يرجف وينزُّ مواجد في مملكة الأسئلة الأولى

عندي الوجد ، وعندي الوعد ،

ولكنّي بعد قليل سأجرَّع نفسي الفاقة ،

أو أقتل ،

في أوج الفرح الناريَّ المتوهَّج في صحن الشارع ،

أو في زاوية في المقهى

لا تغرف شجر الكلمات ،

ولا حزن الصبَّار الطالع في عينيَّ،

وصوتي يصرخ في بريَّة عمّان المتلألأة بفنون

الأزياء،

وجوع الفقراء،

فيا عمَّان ،

أقلَّي من هذي الزخرفة،

صراخ البريَّة ينفذ عبر شريين العتمة ،

ويلفعني الغيم الأسود ،

صوتي والمأذنة المهدومة والطرقات وما لا أذكر ،

يسكب في آنية اللحظة هذا الحزن الفوَّار ،

أقول سلاما يا طرقات الأرض ،

سلاما يا أوراقي البيضاء السوداء ،

سلاما يا مطرا لم يسقط من سنوات في هذا المنفى

وسلاما ليديَّ المتعبتين ،

لأكواب الشاي الصفراء ،

سلاما لجلال السيدَّة الصامتة الآن أمامي

وسلاما للأشياء المجهولة ،

والأرواح المشتعلة في هذا النعش .

النعش فضاء حجري

وسنابك خيل ،

ومناجيق ،

وأبواب موصدة ،

تحبل هذه الساعات الرمليّة بحليب التين ،

وتطلع بأعاجيب مطرَّزة بالوهم الليليَّ ، فهل نتجول في هذا

القفر معا ؟

نتجوَّل في الساحات المطعونة ،

سهمين من الدهشة والرعب،

نوسَّوس في صدر الأرض ،

لتنهض أزهار وينابيع من الردم العربيَّ ،

سأهتف :

عيناك السابحتان ببحر الألوان طريق،

قبّرتان مهاجرتان بلا خارطة ،

أو مأوى

خدّاك شموس وعناقيد أجاص،

شعرك شلال من ضوء وسنابل،

عنقك قارورة شهد،

نهداك بلاد شاسعة ،

أحتاط من الرجفة إذ أحلم بالرمَّان الساطع ..

خصرك هذا الضامر بستان من صبوات طريد اللهفة ،

اقتربي حتى لا تشتعل يداي،

اقتربي حتى أتزوَّد بالنار ،

ويأخدني الرقص إلى الغابة ..

يا سنبلة تتأرجح في الريح ،

فيسندها الصدر المسكون بأزهار اللوتس والنرجس ،

ينزلها الضلع ،

يظلَّلها بالآلهة والقبلات ،

فهل نتجوَّل في هذا القفر معا،

نتواصل خارج دائرة الخوف العصريَّ

ونلجأ داليتين وراء السور ،

هنالك أعشاب ،

وحساسين ،

وموسيقى،

وهناك بكارة كلَّ الأشياء تفيق ،

فتستيقظ .. نبدأ في النقش .

ننقش فوق سرير الماء ، وأعراف الأفراس البريَّة

وجه غزالتنا القزحية ،

نقرأ في كرَّاس الأفق غموض اللون ،

فنركض ، نركض ، نركض،

مثل وعول أفزعها المطر السريُّ،

ونلقي جسدينا في ماء النهر ،

فيكشفنا القمر المتلصَّص عبر شقوق الغيم ،

سندعو القمر إلى بوَّابتنا كي يسهر معنا

يا قمر تعال تعال لتلعب معنا

يا قمر الأعشاب الصيفيّة لا تنفعك العزلة ،

فتعال إلينا ،

سنبلَّل خدّك بالقبل الريَّانة ،

نرشق وجهك بالأزهار ،

ونلعب حول البئر ،

ثلاثة أطفال يتعرَّون أمام جلال المعبود ،

ثلاثة أطفال

وثلاث فراشات حول البئر ،

توقّع موسيقى تكوين البدء المتألق ،

في أحداق تويجات الفجر المائيَّ ،

ولكن يا قمر الأعشاب الصيفيَّة ،

لا تخطف من عينيَّ حبيبي .

هذا الإنشاد المتهدَّج بالزفرة لحبيبي

هذا الزهر المتفتَّح والتجوال الفاتن مهر لحبيبي

سأجمَّع باقات الورد لأنثرها قدَّام حبيبي

سيمرُّ حبيبي الآن ..

سألت موظفة الهاتف : أين حبيبي

غاب إذن ؟

أيَّتها الشارات الضوئيَّة هل مرَّ حبيبي

وامتدَّ سؤالي …

عرَّش في كلَّ الطرفات ،

امتدَّ ، دخلت زحام الناس ،

واشتعلت الوقت وحيدا في دائرة الصمت الكبريتيَّ

سأجهر هذي اللحظة ،

بهموم القصب المتوحَّد ، في الوديان ،

سأجهر بأغاني النهر ، وهمهمة الجريان ،

سأجهر برياح البقعة ناشبة ،

في شبَّابات الرعيان ،

أدور هنا وهناك أوزَّع أرغفتي

من هذا المدَّثر بغبار الصحراء على طرف العاصمة

دعوني أتوقف بالباب لديه ،

فهذا السيَّد في الغرف التنكيّة أعرفه ،

هذا السيَّد في الغرف الإسمنتيَّة أعرفه ،

أعرف هذا الجوع ، الطين ،

الأطفال المسلولين ،

فهذا المدّثر أعطاني الشارة

قبل سنين،

وأودّعني سرَّ الدعوة للماء ،

سأجهر بحديث الماء ،

سأجهر بمزاميري الخاصة حتى تسَّاقط أوراق الورد ،

فهذا عزف حرَّاق ،

يرتعش عمودي الفقريُّ له ..

تشتعل عصافير الدوح وتنقر تفاحة قلبي

أيتها الفارعة كصفصاف النهر ،

الوضاءة بعذاب الفجر ،

حضورك يسطع في أنحاء المقهى العربيَّ اليابس ،

ليس الأفق رماديا ،

الأفق دم وأوز يتقافز

وغبار من قاموس القلب ،

الأفق كتاب ، رؤيا

ليس الأفق رماديّا

ليس الأفق رماديا

ها هي عمَّان البدويّة ، عمّان المتحضَّرة ،

وعمَّان السلوان ،

سيقتلني الكتمان ،

سيقتلني هذا اللغز الواضح ،

فتعالي من صحراء الزرقاء إليّ،

تعالي من أية ناحية في الوحدات ،

سأعزف بعض الوقت ، تعالي واستمعي لي .

من أول غابة ليمون في الكرمل ، حتى أخر منديل .

هذا منديلك ، أتيمَّم بالمنديل ،

ويحضرني وجهك ،

في زحمة هذا المقهى العابق بحرير ملابسك الوضَّاحة ،

هذا المقهى العربيَّ توزَّع لحمي فيه ،

فقاسمني الرواد تهاليل الجوع اليوميَّ،

لهذي الريح الجوَّالة غنَّيت :

لنا يوم بالفرح الريفيَّ يجيء

ولي وجهك هذا الشجريُّ يضيء ..

على قارعة الشارع ينبت زعترنا البلديُّ ،

سأفرش سجَّادة أمي تحت شبابيك خريفك ،

أتسلَّح بجراد وزروع

أهتف :

هذا ليل لا يلبث أن يذهب ،

هذا ليل لا يلبث أن يذهب ،

فليتألق اسمك تحت رماد القتلى المنسيين على

مدَّ الأعراس ،

سأرسم تحت الأقواس ،

هلالين وحيدين ،

هلالا لدموعك ، وهلالا لرجوعك ،

وأناديك ،

فآن هززت المنديل ،

رأيت سرورا وحشيّا في عينيك ،

حضنت أصابعك المشتعلات لهيبا بين ضلوع الآه

وزيتا لقناديلي

برعمت الأرض ونوَّر لوز المنفى فاستمعي لي

من أول غابة ليمون في الكرمل حتى آخر منديل

أي الألوان تحبُّ …؟

الحنطيّ..

وأيُّ

جراح الشفق الحمراء ،

جلال الزرقة في أشجار قميص بحريًّ،

اتفكر …؟

أحلم ..

بالرقص؟

بأسافر النورس والرقص ..

و…

أحلم باللبلاب على درج في الذاكرة يموج ،

سأختصر الوقت على قدح ،

وأحاور في الخمر الشفَّاف ،

تضاريس الزعتر والصفصاف ،

أقول :

مغنيك مريض بالشفقيات إلى حدَّ الروعة ،

والآنية تضيق ،

وها هو ذا

يبحث في عمان عن الأيام .

يبحث عن سيدة كان يسمَّيها أنثى النهر ،

فيا سيَّدة النهر وأنثاه ،

رأيتك في طابور الأيتام

وقرأت على تطريز ثيابك ،

تنويعا للريح الغربية أبلغ من أيَّ كلام

وقرأت على الأكمام

أشكالا تتحفّز للوثب ،

فقلت وجدتك يا أمي

ووجدت مغنيك المتوغل في الرمل ..

توضأ بالحزن العربيّ وقام .

وتزوَّد بالماء،

بأطيار وحوريان البحر،

بغزلان الوعر،

بحنّون الساحل وقرنفله البريَّ،

وجاء

فانتظريه يشقُّ البحر إليك صباحا

وانتظريه مساء.