وحي الرستمية – محمد مهدي الجواهري

أكْبَرْتُ ميسورَ حالٍ أستشِفُّ بها … إذ لم يكن ما أُرجّيهِ بميسورِ

وقد رَضِيت بكِنٍّ أستكِنُّ به … ناءٍ عن العالَمِ المنحطِّ مهجور

ورُحْتُ رغَم جحودٍ عامدٍ أشرٍ … للحظِّ أُرجِعُ حالي والمقادير

تعلةً لم يكنْ لي من تَخَيُّلِها … بُدٌّ وكم خودِعَت نفسٌ بتبرير

ما زالتِ المدُنُ النكراءُ تُوحِشُني … حتى اتُّهِمْتُ بإحساسي وتفكيري

ذَمَمْتُ منها محيطاً لا يلائمني … صعْبَ التقاليدِ مذمومَ الأساطير

حتى نزلتُ على غنّاءَ وارفةٍ … بكل مرتجف الأطيافِ مسحور

أهدَى ليَ الريفُ من ألطاف جنّتِه … عرائشاً أزعجتها وحشةُ الدور

طافت عليَّ فلم تنكِرْ مسامرتي … ولم أرُعْها بإيحاشٍ وتنفير

كأنني ، والمروجُ الخضرُ تنفَحُني … بالموحيات ، ” ابنُ عمرانٍ ” على الطور

تُلقي الهجيرَ بأنفاسي تُرقِّقُه … لطفاً وتكسِرُ من عُنف الأعاصير

وتستبيك بحشدٍ من روائعها … موفٍ على كلِّ منظومٍ ومنثور

وحيٌ يَجِلّ عن الألفاظ ما نشرت … طلائعُ الفجرِ فيها من تباشير

كم في الطبيعة من معنى يُضيّعُه … على القراطيس نقصٌ في التعابير

هنا الطبيعة ناجتني معبِّرةً … عن حسنها بأغاريد العصافير

وبالحفيف من الأشجار منطلقاً … عَبْر النسيم وفي نفحِ الأزاهير

ومنزلي عُشُّ صيداحٍ أقيِمَ على … خضراءَ غارقةٍ في الظل والنور

هنا الخيالُ كصافي الجوِّ منطلقٌ … صافي المُلاءَةِ ضحّاكُ الأسارير

وقد تفجَّر يُنبوعُ الجمالِ بها … عن كل معنىً بديعِ القصدِ مأثور

حتى كأنّ عيونَ الشعر يُعوِزُها … وصفُ الدقائقِ من هذي التصاوير

فما تُلِمُّ بها إلاّ مقاربةً … ولا تحيطُ بها إلاّ بتقدير

وجدت ألْطَفَ ما كانت مخالطةً … نقَّ الضفادع في لحن الشحارير

وقد بدا الحقلُ في أبهى مظاهره … بساطَ نورٍ على الأرجاء منشور

وأرسل البدرُ طيفاً من أشعّتِه … كان الضمينَ بإنياس الدياجير

واستضحك الشط من لئلاء طلعته … كأنه قِطِعِاتٌ من قوارير

واسترقص القمرُ الروضَ الذي ضحكت … ثغورُه عن أقاحٍ فيه ممطور