مصابك حيا عرا جعفرا – جبران خليل جبران

مصابك حيا عرا جعفرا … وخطبك ميتا عرا قيصرا

رزئناك لم يغن منك البيان … ولم يعصم الجاه أن تقبرا

وهذي النهاية عقبي النهى … وذاك الثراء لهذا الثرى

وغاية مجدك في العالمين … إذا عرفوا الفضل أن تشكرا

وآخر بأسك أن يعتدى … عليك دفينا وأن يفترى

أيهتك عنها قميص المروءة … تحت البلى منع أن تسترا

وتثوي المروءة في دارهم … وترضى المروءة أن تذكرا

كذا انكشف الدهر للناس فيك … عن قاهر عز أن يقهرا

حليم تراكا بإقباله … ضروب دراكا متى أدبرا

لأمر صفا لك حين صفا … وكدر وردك إذ كدرا

يقول بأحداثه الواعظات … لمن هم بالزهو أطرق كرى

حباك زمانا بجاه الملوك … وبطش الأساطين مستوزرا

وفخر الغزاة قروم السرايا … وفكر الهداة نجوم السرى

وعزم يكون على أمة … قتاما وفي أمة نيرا

فكنت كما تبتغي عزة … وكنت كما ترتضي مظهرا

وكنت معا فارسا شاعرا … وكنت معا ندسا قسورا

جميع المزايا فما للبيان … وما للغياث وما للقرى

نظيرك مبتكرا مبدعا … شهابا سنيا ندى ممطرا

نظمت المعالي نظم المعاني … ففتح الكلام كفتح القرى

وطعن السنان كنفث اليراع … وكلهما بالنهى حبرا

وضم الجيوش كنسق القريش … وتقسيمه أشطرا أشطرا

وسهل القتال كطرس به … يسطر بأسك ما سطر

بنقط الجماجم إعجامه … وإهماله جوبه مقفرا

وتفويقه بنعال الجياد … وتدبيجه بدم أحمرا

فيا غازيا ذاك إعجازه … ويا ناظما ذاك ما صورا

أتلك من الكلم الذاكيات … تسيل النفوس بها أنهرا

شقائق آياتك النديات … رحيقا من الأنس أو كوثرا

أم الصافيات شوافي الأوام … بما تحتها من زلال جرى

أم الجاليات يبن لنا … من الغيث كل ضمير سرى

أم المطربات يشنفننا … بشدو الهزار وقد بكرا

أم المرسلات هدى للأنام … حقائق مودعة جوهرا

فهل كان أفرس منك فتى … وهل كان منك فتى أشعرا

كلا المفخرين يراعا وسيفا … دعا تاجه لك مستأثرا

فتاج عصاك وتاج علاك … وكان الأحق بأن يؤثرا

فلما رقيت إلى المنتهى … وكدت تجاوز ما قدرا

رماك الزمان بأحداثه … مجيشة فانبرت وانبرى

أبان المحبين والآل عنك … وأقصى الموالي والعسكرا

وأسكت أفراسك الصاهلات … وأصمت صمصامك الأبترا

وأخرس من قال لله أنت … وأبكم حولك من كبرا

وسكن روع الفلا مجفلات … وأمن شامخها أصعرا

ونفس كرب الظبا لافتات … ورح أيلها اصورا

وألوى عليك فأدمى وأصلى … وصال وطال وما أقصرا

رمى بك في السجن من حالق … أليف الجناة طريح العرا

وأثخن جرحا فأقصاك عن … ثرى مصر مجتنبا مزدرى

وزادك ضيما فحجب عن … عيونك ضوء الضحى مسفرا

وجاز النكال فأردى ابنتيك … كما يذبح الذبح أو أنكرا

ولكن أبى لك ذاك الإباء … إلا الثبات وأن تصبرا

وهل في الأسى غير صدع الحشى … وتدمية الجفن مستعبرا

وتهوين نفس لدى خصمها … بلا طائل غير أن تصغرا

فلم تنتقصك الرزايا ولكن … أعادتك محنتها أكبرا

ورد بياض المشيب ثناءك … أجلى بهاء وقد طهرا

فما كان سجنك إلا قرارا … وقد تعب الجد أن يسهرا

ولا النفي إلا خلاء أعدت … به زمن الأدب الأزهرا

ولا الثكل إلا لتأسى أساك … وتبكي بكاء ليوث الشرى

ولا الغض عما تراه العيون … إلا وقد ساء أن ينظرا

إذا وسع الكون فكر امرئ … فلا بأس بالطرف أن يحسرا

على الشمس أن تهدي المبصرين … وليس على الشمس أن تبصرا

فما جسم محمود بت في سكون … ويا عين سام اهنيء بالكرى

ويا فكرة كم نشدت العلى … بلغت مداها فماذا ترى

أطل على هذه الكائنات … من حيث أنت بأسمى الذرى

أنتظر غير قضاء رحيب … تحاكي النجوم به العثيرا

وتسمع غير شبيه الحفيف لما … اصطك منها وما كورا

فقل صامتا وأشر مائتا … لمن تاه في الأرض واستكبرا

علام تباذخ هي الجبال … وفيم تشامخ هذا الورى