ما نحن إن جارت صدور ركابنا – الفرزدق

ما نَحْنُ إنْ جارَتْ صُدُورُ رِكَابِنَا … بِأوّل مَنْ غَرّتْ هدايَةُ عاصِمِ

أرَادَ طَرِيقَ العُنصُلَينِ، فياسَرَتْ … بهِ العِيسُ في نَائي الصُّوّى مُتَشائِمِ

وَكَيْفَ يَضِلُّ العَنْبَرِيُّ بِبَلْدَةٍ … بهَا قُطِعَتْ عَنْهُ سُيُورُ التّمَائِمِ

وَلَوْ كانَ في غَيرِ الفَلاةِ وَجَدْتُهُ … خَتُوعاً بِأعْنَاقِ الجِداءِ التّوَائِمِ

وَكُنْتَ إذا كَلّفْتَ حاضِنَ ثَلّةٍ … سُرَى اللّيلِ دَنّى عن فُرُوجِ المَحارِمِ

رَأى اللّيْلَ ذا غَوْلٍ عَلَيْهِ ولَم تكنْ … تُكَلّفُهُ المِعْزَى عِظَامَ المَجاشِمِ

أنَخْنَا بِهَجْرٍ بَعْدَمَا وَقَد الحَصَى، … وَذَابَ لُعابُ الشّمسِ فوْقَ العَمائِمِ

ونَحْنُ بذي الأرْطَى يَقِيسُ ظِمَاؤنَا … لَنَا بالحَصَى شِرْباً صَحيحَ المَقَاسِمِ

فَلَمّا تَصَافَنّا الإداوَةَ أجْهَشَتْ … إليّ غُصُونُ العَنْبَرِيّ الجُرَاضِمِ

وَجَاءَ بِجُلْمُودٍ لَهُ مِثْلُ رَأسهِ … لِيُسْقَى عَلَيْهِ المَاءَ بَينَ الصّرَائِمِ

فضَاقَ عَنِ الأُثْفِيّةِ القَعبُ إذْ رمى … بِهَا عَنْبَريٌّ مُفْطِرٌ غَيْرُ صَائِمِ

وعلَمّا رَأيْتُ العَنْبَرِيّ كَأنّهُ، … على الكِفلِ، خُرْآنُ الضّباعِ القَشاعمِ

شَدَتُ له أزْرِي وَخَضْخضْتُ نُطفَةً … لِصْدْيَانِ يُرْمى رَأسُهُ بِالسّمَائِمِ

صَدي الجوْفِ يَهوِي مِسمعاهُ قد التظى … عَلَيهِ لَظى يَوْمٍ من القَيظِ جَاحِمِ

وَقُلتُ له: ارْفَعْ جِلدَ عَينَيكَ إنّما … حَياتُكَ في الدّنْيَا وَجِيفُ الرّواسِمِ

عَشيّةَ خمس القَوْم، إذْ كان منهمُ … بَقَايَا الأداوِي كالنّفُوسِ الكَرَائِمِ

فَآثرْتُهُ لَمّا رَأيْتُ الّذي بِهِ … على القَوْمِ أخشَى لاحقاتِ المَلاوِمِ

حِفاظاً وَلَوْ أنّ الإداوَة تُشْتَرَى، … غَلَتْ فَوْقَ أثْمَانٍ عِظامِ المَغارِمِ

على ساعَةٍ لَوْ كانَ في القَوْمِ حاتمٌ … على جُودِهِ ضَنّتْ بِهِ نَفسُ حاتمِ

رَأى صَاحبُ المِعَزى الذي في عُرَاقِها … رَخِيصاً، ولَوْ أُعطي بها ألفَ رَائِمِ

مِنَ الأمْعُزِ اللاّتي ورِثْتَ كِلابَهَا … وَأرْبَاقَهَا، تَيْساً قَصِيرَ القَوَائِمِ

فَكافَرَني إنْ لمْ أُغِثْهُ، وعلَوْ تَرَى … مُناخي بهِ المِعزَى غَداةَ النّعائِمِ

لَكُنّ شُهُوداً أنْ يُكَافِرَ نِعْمَتي … بِعَطْفِ النَّقا إذْ عاصِمٌ غَيرُ قَائِمِ

لأيْقَن أني قَدْ نَقَعْتُ فُؤادَهُ، … بِشَرْبَةِ صَادٍ يَابِسِ الرّأسِ هَائِمِ

وَكنّا كأصْحابِ ابنِ مامةَ إذْ سَقَى … أخا النّمِرِ العَطشانَ يوْمَ الضَّجاعِمِ

إذا قال كَعْبٌ قد رَوِيتَ ابنَ قاسِطٍ، … يَقُولُ لَهُ زِدْني بِلالَ الحَلاقِمِ

فَكُنْتُ كَكَعْبٍ غَيرَ أنّ مَنِيّتي … تَأخَرَ عَنّي يَوْمُهَا بِالأخَارِمِ

فَرُحْنا وَرِيقُ العَنْبَرِيّ كَأنّهُ … بِأنْيَابِ ضَبْعَانٍ على الخُرْءِ آزِمِ

وَكُنتُ أُرَجّي الشكرَ مِنهُ إذا أتى … ذَوِي الشّأمِ من أهلِ الحُفَيرِ وَرَاسِمِ

تَمَنّى هِجائي العَنْبَرِيُّ، وَخِلْتُني … شَدِيداً شَكِيمي عُرْضَةً للمُرَاجِمِ

ولَوْ كان من أهلِ القُرَى ما أثَابَني … على الرّمْيِ أقْوَالَ اللّئِيمِ المُخاصِمِ

إذا اخضَرّ عَيشومُ الجِفارِ وَأُرْسِلَتْ … عَلَيْهِنّ أنْوَاءُ الرّبِيعِ المَرَازِمِ

فَأيِّهْ بهِمْ شَهْرَينِ أنَّى دَعَوْتَهُمْ … أجَابُوا على مَرْقُومَةٍ بالقَوَائِمِ

طِرَازَ بِلادٍ عَن عُرَيْجِ بنِ جَندبٍ … وَعن حيّ جُنجودٍ حمارِ القَصَائِمِ

تَرَى كُلَّ جَعْرٍ عَنْبَرِيّ خبَاؤهُ، … ثُمَامٌ وَعَيْشُومٌ قِصَارُ الدّعائِمِ

ألَسْتُمْ بِأصَحابي وَكانَ ابنُ عامرٍ … ضَلَلْتُمْ بِهِ فَلْجَ المِيَاهِ العيَالِمِ

غَداةَ بَكَى مَغْرَاءُ لمّا تَسَافَدَتْ … بمغْرَاءَ بِالحَيْرَانِ أحْلامُ نَائِمِ

وَلا يُدْلِجُ المَوْلى إذا اللّيلُ أسدَفَتْ … عَلَيْهِ دُجَى أثْبَاجِهِ المُتَرَاكِمِ

تُنِيخُ المَوَالي حِينَ تَغْشَى عُيُونُهُمْ … كَأشْبَاهِ أوْلادِ الغَطاطِ التّوَائِمِ

وَلَوْ كان صَفْرَاء الثّرِيدِ وَجَدْتَهُمْ … هُداةً بِأفْوَاهٍ غِلاظِ اللّهَازِمِ

إذا مَا تَلاقَى ابْنَا مُفَدّاةَ عُفّرَتْ … أُنُوفُ بَني الجَعْرَاءِ تحتَ المَناسِمِ

وَمَا كانَتِ الجَعْرَاءُ إلاّ وَلِيدَةً، … وَرِثْنَا أبَاهَا عن تَمييمِ بنِ دارِمِ

إذا ما اجتَمَعْنَا حَكّمُوا في رِقابهِمْ … أللعِتْقِ أدْنَى أمْ هُمُ للمَقاسِمِ

قُعُودٌ بِأبْوَابِ الزُّرُوبِ، وَلا تَرَى … لهُمْ شَاهِداً عِنْدَ الأمُورِ العَظائِمِ

ولَمْ تَعْتِقِ الجَعْرَاءُ مِني وَمَا بهَا … فِرَاقٌ ولَوْ أغْضَتْ على ألْفِ رَاغمِ

بِهمْ كَانَ أوَصَاني إبي أنْ أضُمّهُمْ … إليّ وَأنْهَى عَنْهُمُ كُلَّ ظَالِمِ

إذا مَا بَنُو الجَعْرَاءِ لَفّوا رُؤوسَهم … بَدا لُؤمُهُمْ بَينَ اللّحى والعَمائِمِ