علا مفرقي بعد الشباب مشيب – جبران خليل جبران

علا مفرقي بعد الشباب مشيب … ففودي ضحوك والفؤاد كئيب

إذا ما مشى هذا الشرار بلمة … فما هي إلا فحمة ستذوب

أراعك إصباح يطارد ظلمة … بها كان أنس ما تشاء وطيب

فما بال ضوء في دجى الرأس مؤذن … بأن زمانا مر ليس يؤوب

غنمنا به أمن الحياة ويمنها … كليل به يلقى الحبيب حبيب

شباب تقضى بين لهو ونعمة … إذ الدهر مصغ والسرور مجيب

وإذ لا تعد المعصيات على الفتى … خطايا ولا تحصى عليه ذنوب

وإذ كل صعب لا يرام مذلل … وكل مضيق لا يجاز رحيب

وإذ كل أرض روضة عبقرية … وكل جديب في الديار خصيب

وإذ كل ذي قلب خفوق بصبوة … على الجهل منه شاعر وأديب

وإذ كل ذي قلب خفوق بصبوة … على الجهل منه شاعر وأديب

وإذ يثب الفكر البطيء فيرتقي … إلى الأوج لا يثنيه عنه لغوب

وإذ نستلذ اآلقر وهو كريهة … وإن نستطيب الحر وهو مذيب

وإذ نستبينا كل ذات ملاحة … لها فتنة بالملاعبين لعوب

وإذ تتلقانا الصروف برحمة … وينحاز عنا السهم وهو مصيب

تقينا الرزايا رأفة الله بالصبا … وتدرأ عنا الحادثات غيوب

فكنا كأفراخ تعرض وكرها … وللنوء هطل والرياح هبوب

فلم تؤذها الأمطار وهي مهالك … ولم يردها الإعصار وهو شعوب

بل اهتز مثواها ليهنئها الكرى … وبلت لإمراء الطعام حبوب

وكنا كوسى يوم أمسى وفلكه … على النيل عشب يابس ورطيب

مشت فوق تيار البوار تخطرا … تراءى بصافي الماء وهو مريب

يعض الردى أطرافها بنواجذ … من الموج تبدو تارة وتغيب

ويبسم وجه الغور من رقة لها … وما تحته إلا دجى وقطوب

فجازت به الأخطار والطفل نائم … تراعي سراها شمأل وجنوب

إلى حيث ينجي من مخالب حتفه … غريق ويوقي الظالمين غريب

إلى ملتقى أم ومنجاة أمة … إلى الطور يدعى الله وهو قريب

رعى الله ذاك العهد فالعيش بعده … وجوم على أيامه ووجيب

يقولون ليل جاءنا بعده الهدى … صدقتم هدى لكن أسى وكروب

إذا ما انجلى صبح بصادق نوره … وبدد من وهم الظلام كذوب

وحصحص حق الشيء راع جماله … ولم تخف عورات به وعيوب

وأضحى ذليلا للنواظر مشهد … رأته بنور الشهب وهو مهيب

فهل في الضحى إلا ابتذال مجدد … تثوب به الأنوار حين تثوب

وهل في الضحى طيف يسر بزورة … إذا ساءنا ممن نحب مغيب

وهل في الضحى إلا جروح وغارة … لحوح وإلا سالب وسليب

وهل في الضحى كأس صفوح عن العدى … إذا رابت الكاسات ليس تريب

وهل في الضحى راح حمول على الندى … تصب فراحات الكرام تصوب

أبا الصخب الساعي به كل مغتد … إلى الرزق يرضي مسمعيه طروب

أتمكننا من بارح الأنس عزل … وجارا رضانا ناقم وغضوب

أيهنئنا للشمس وجه ودونه … دخان مثار للأذى وحروب

أتأوي إلى ضوضاء سوق صبابة … وتلك نفور كالقطاة وثوب

إليكم عني بالحقائق إنني … على الكره مني بالحياة طبيب

أعيدوا إلى قلبي عذير شبابه … فما الشيب إلا عاذل ورقيب

ولا غركم مني ابتسام بلمتي … فرب ابتسام لاح وهو شبوب

أليست نجوم الليل أشبه بالندى … على أنها جمر ذكا ولهيب