عزاؤكَ أن الدهرَ ذو فَجعاتِ – ابن الرومي
عزاؤكَ أن الدهرَ ذو فَجعاتِ … وكلُّ جميعٍ صائرٌ لشَتاتِ
لك الخيرُ كم أبصرتَهُ وسمعتَهُ … قرائنَ حيٍّ غيرَ مختلجاتِ
هلِ الناس إلا معشرٌ من سلالة ٍ … تعودُ رُفاتاً ثَمَّ أيَّ رفاتِ
مياهٌ مَهينات يؤولُ مآلُها … إلى رِمَمٍ من أعظُمٍ نخراتِ
أرى الدهر ظَهراً لا يزال براكبٍ … وإن زل لم يُؤْمنْ من العثراتِ
ومن عجبٍ أنْ كلما جدَّ ركضُنا … عليه تباعدنا من الطَّلباتِ
وأعجبُ منه حرصُنا كلما خلتْ … سنونا كأنا من بني العشراتِ
نُخلِّف مأمولاتنا وكأننا … نسيرُ إليها لا إلى الغَمراتِ
غُررْنا وأُنذرنا بدهرٍ أَملَّنا … غُروراً وإنذاراً بهاكَ وهاتِ
إذا مَجَّ مجاتٍ من الأَري أَعْقبت … بأقصى سهام في أحدِّ حُماتِ
أميْري وأنت المرءُ ينجم رأيهُ … فيسري به السارونَ في الظُّلماتِ
وتعصِفُ ريحُ الخطبِ عند هُبوبها … وأنت كركنِ الطَّودِ ذي الهَضباتِ
عليك بتقوى اللَّه والصبرِ إنهُ … مَعاذٌ وإن الدهر ذو سَطواتِ
وليس حكيمُ القوم بالرَّجل الذي … تكون الرزايا عنده نَقماتِ
فُجعَت فلا عادت إليك فجيعة ٌ … كما يُفجَع الأملاك بالملِكاتِ
أصِبْتَ وكلٌّ قد أُصيب بنكبة … يُهاض بها الماضي من النَكباتِ
فلا تجزعَنْ منها وإن كان مثلها … زعيماً بنفرِ الجأشِ ذي السكناتِ
وما نَفْرُ نفسٍ من حلول مصيبة ٍ … وقد أيقَنَتْ قِدماً بما هو آتِ
أتوقنُ بالمقدور قبل وقوعِه … وتنفِر نفرَ الغِرِّ ذي الغفلاتِ
لقد أونِسَت حتى لقد حان أنسُها … بما شاهدت للدهر من وقعاتِ
فما بالها نفرُ الأغرَّاء نفرُها … وقد أُنذِرت من قبلُ بالمَثُلاتِ
من احتسبَ الأقدار أيقن فاستوتْ … لديه منيخات ومنتظَراتِ
هلِ المرءُ في الدنيا الدنية ِ ناظرٌ … سوى فقد حبٍ أو لقاء مَماتِ
ألم تَر غَاراتِ الخطوب مُلِحة ً … فبين مُغَاداة ٍ وبين ثباتِ
تروحُ وتغدو غير ذات ونيَّة ٍ … على حيوان مرة ومَواتِ
وما حركاتُ الدهرُ في كل طَرفة ٍ … بلاهية ٍ عن هذه الحركاتِ
سَيسْقي بني الدنيا كؤوسُ حتوفهم … إلى أن يناموا لا منامَ سُباتِ
وفاءٌ من الأيام لا شك غدرُها … وهل هنّ منجزاتُ عِداتِ
يَعِدْن بغدر ليس بالمُخلفاته … فقُلْ في وفاءٍ من أخي غَدراتِ
تعزَّ بموت الصِّيد من آل مُصْعب … تجدهُم أُسى ً إن شئت أو قُدواتِ
تعزَّوا وقد نابتهُمُ كلُّ نوبة … وماتوا فعرّوا كل ذي حسراتِ
ومن سُنن الله التي سنّ في الورى … إذا جالتِ الأراءُ مُعتبِراتِ
زوالُ أصول الناسِ قبل فروعهم … وتلك وهذي غيرُ ذات ثباتِ
ليبقَى جديدٌ بعد بالٍ وكلُّهم … سَيبْلَى على الصَّيفاتِ والشَّتَواتِ
وإن زالَ فرعٌ قبل أصلٍ فإنما … تُعد من الأحداث والفَلتاتِ
وتلك قضايا اللَّه جلَّ ثناؤه … وليست قضايا اللَّه بالهفَواتِ
ليُعلَم ألا موتَ ميتٍ لكَبْرة ٍ … ولا عيش حيٍّ لا قتبال نباتِ
وتقديمُ من قَدَّمت شيءٌ بحقهِ … فَدَعْ عنك سَحَّ الدمع والزفراتِ
ولا تَسخِط الحقّ الذي وافق الهدى … هوى من له أمسيتَ في كُرُباتِ
رُزئتَ التي ودَّت بقاءَك بعدها … وأحيت به في ليلها الدعواتِ
وكانت تَمنَّى أن تُردَّى سريرها … وبعضُ أمانيِّ النفوس مُواتي
فلا تكرهْنَ أن أوتِيَتْ ما تودُّه … فكرهُك ما ودت من النكراتِ
ألم تر رُزءَ الدَّهر من قبل كونهِ … كفاحاً إذا فكرتَ في الخلواتِ
بلى كنتَ تلقاهُ وإن كان غائباً … بفكرك إن الفِكرَ ذو غزواتِ
فما لك كالمَرميِّ من مأمنٍ لهُ … بنَبْلٍ أبَتْه غيرَ مُرتقباتِ
زَعِ القلب إن الفاجعاتِ مصائبٌ … أصابت وكانت قبل مُحتسَباتِ
فإن قلتَ مكروهٌ ألمت فُجاءة ً … فما فوجئت نفسٌ مع الخطراتِ
ولا غوفصت نفسٌ ببلوى وقد رأت … عِظاتٍ من الأيام بعد عظاتِ
إذا بغتَتْ أشياءُ قد كان مثلها … قديماً فلا تعتدَّها بغَتَاتِ
جزعتَ وأنت المرءُ يوصف حزمُهُ … ولا بد للأيقاظِ من رَقَداتِ
فأعقِبْ من النوم التنبُّهَ راشداً … فلا بد للنُّوام من يقظاتِ
ومَن راغم الشيطانَ مثلك لم يُجبْ … رُقاهُ ولم يَتْبع له خُطواتِ
ومما ينسِّيك الأسى حسناتُها … وإن كنت منها يا أخا الحسناتِ
فإن ثوابَ اللَّه في رُزء مثلها … لِقاؤُكَها في أرفع الدرجاتِ
وذاك إذا قضَّيتَ كلّ لُبانة ٍ … من المجد واستمتعتَ بالمُتُعاتِ
مضت بعدما مُدَّتْ على الأرض برهة ً … لتُمجِدَ من فيها من البركاتِ
فإن تكُ طوبى راجعت أخواتها … فقد زوِّدت من طيّب الثمراتِ
لعَمرك ما زُفت إلى قعر حفرة ٍ … ولكنها زُفت إلى الغُرفاتِ
ولولاك قلنا من يقومُ مقامها … ومن يؤثِر التقوى على الشبهاتِ
سقاها مع الدمع الذي بُكِيَتْ به … حيا الغيثِ في الروحات والغدواتِ
وصلّى عليها كلما ذرَّ شارقٌ … وحان غروبٌ صاحبُ الصلواتِ